تلة صرافة

26 فبراير 2023
+ الخط -

هكذا إذاً؟ بالدولار الأميركي بدلاً من الليرة اللبنانية ستكتب الأسعار على رفوف المخازن في لبنان. والقرار رسمي صادر عن وزير الاقتصاد اللبناني شخصياً.

ربما كان على هذا القرار، غير المسبوق في أي بلد في العالم، أن يصدر عن وزير الدفاع بدلاً عن وزير الاقتصاد. فبموجب مفاعيله، سيتحول الدولار من عملة صعبة أجنبية، مجرد أداة للتبادل التجاري بين الدول، إلى سلاح فعلي موجه إلى رؤوس من لا يملكون إشهار بعض أوراقه، للدفاع عن أنفسهم في حرب أهلية اقتصادية من نوع جديد. حرب تقوم على فرز الخنادق بين: من يملكون العملة الصعبة، وبالتالي القدرة على العيش والاستمرار لا بل الارتفاع في سلم الطبقات الاجتماعية (إن كانت لا تزال موجودة) مهما حصل، أو بفضل ما حصل، ولمن لا يملك إلا عملته الوطنية المتآكلة، وبالتالي، لا يملك شيئاً تقريباً. 

خطورة هذا القرار، إلى خفته التي لا تحتمل وعبثيته الاقتصادية، لا بل مخالفته لمجرد الحس الوطني السليم، هي في إعلانه المضمر أنّ الليرة اللبنانية، أي النقد الوطني، أحد رموز استقلال البلاد وسيادتها، انتهت.

انتهت الليرة إذاً من دون جنازة وطنية، ومن دون أي تعديل في قانون النقد والتسليف الذي أوجب التعامل الداخلي بالعملة الوطنية التي تعد جزءاً لا يتجزأ مما يسمى بالسيادة، ومنع التداول المحلي بأي عملة أخرى، وعاقب بالحبس كل من يخالف هذه القرارات.

انتهت الليرة وانتهت السيادة وانتهى الاستقلال. أصلاً من المعيب أن نتحدث عن الاستقلال "بقفاه" في ظل تدخل الكرة الأرضية بشؤونه وإدارتها له. وما أعلنه الوزير الذي لا شك سيدخل "غينيس" للأرقام القياسية، بوصفه أول وزير اقتصاد يسدد الضربة القاضية لعملة بلاده، هو بالفعل الترجمة البليغة لإحساس اللبنانيين بانتهاء صلاحية سيادة واستقلال بلادهم، وهو إعلان قد يكون تأجل لسنوات.

فحين تفرض عملة ما نفسها "عملة الواقع" على كيان مختلف، فمعنى ذلك أنها تحتل هذا الكيان فعلياً.

بعد الثورة المصرية وفتح معبر رفح، أتيحت لي -لحظّي الفائق- زيارة قطاع غزة. كان حلماً تحقق يومها في أن أزور فلسطين. وحين وصلت إلى المعبر الشهير، وهممت بالدخول، اعترض طريقي العديد من الصرافين الذين كانوا يلوّحون أمام وجهي برزم من أوراقهم النقدية وهم يصيحون "شيكل.. شيكل".

ما زلت أذكر كيف أنني، وبكل سذاجة، نهرت أحدهم، وقد كان وقحاً، صائحة فيه أن يذهب إلى الجحيم هو وشيكلاته. كان صراخي على الصراف أقرب إلى رعب المفاجأة. مفاجأة من يستفيق ميدانياً على تفاصيل الاحتلال وترجمته في الواقع الفلسطيني. وهي صيحة لم تنتزع من الصراف إلا ابتسامة هازئة. ولقد كان محقاً.

حاولت التملّص بعد دخولي القطاع من تجرع هذه الكأس المرّة، مستعيضة بالدولار في التعامل اليومي عن الشيكل، إلا أنَّ ذلك لم يكن واقعياً لمن يريد الإقامة ولو لعشرة أيام كما فعلت. وحين تضامنت معي الصبية التي كانت تبيعني خطاً في "جوال"، وقدمت لي الخط مجاناً كي لا أضطر للدفع بالشيكل، خجلت، وقلت لنفسي: من أنت حتى تزايدي في المقاطعة على الفلسطينيين الواقعين تحت هذا الاحتلال بالشيكل؟

وفي النهاية، ما الفرق بين الشيكل والدولار طالما أن فلسطين لا تطبع عملتها؟

ماذا يقول هذا الجندي عندما يقبض المائة دولار التي ستعينه على بلوغ آخر الشهر؟ لمن ولاؤه؟ أسأل نفسي

لكننا في لبنان، عكس فلسطين المحتلة، نطبع عملتنا، لا بل إننا نطبع منها الكثير. نطبع ما يكفي لكي تصبح دون قيمة. يقبض الجندي، الواقف في صف الانتظار أمام صندوق التعاونية، على ورقة المائة ألف ليرة بيده. يفردها وينظر إليها متأملاً كأنه يراها للمرة الأولى. كانت تساوي 67 دولاراً فأصبحت تساوي دولاراً وربع.

ينظر إليّ بمرارة ساخرة ويقول كلمة واحدة: مونوبولي! يقصد الأوراق النقدية التي لا قيمة لها في اللعبة الشهيرة.

أتذكر أنّ السفارة الأميركية أعلنت عن مساعدة شهرية لعناصر الجيش اللبناني بالدولار "الفريش". ماذا عن الجيش؟ الركن الآخر للسيادة والاستقلال؟

ماذا يقول هذا الجندي عندما يقبض المائة دولار التي ستعينه على بلوغ آخر الشهر؟ لمن ولاؤه؟ أسأل نفسي.

في تحية إلى عاصي الرحباني في ذكراه الرابعة، يقول ابنه زياد في معرض الرد على لائمي والده، وهو منهم، كونه "اخترع وطناً لا وجود له إلا في الأغاني"، أنّ والده كان موسيقياً وشاعراً ولم يكن جيولوجياً ليعرف طبيعة الأرض التي قام عليها لبنان، ولم يكن يعلم أنه قائم على "تلة صرافة"!

اليوم، أصبح لبنان يشبه أكثر من أي وقت مضى "تلة الصرافة". وطن تجار لا يشبعون في بلاد متفلتة من أي عقال أو قانون، وطن ينهبه مضاربو العملة والصرافون برعاية المصرف المركزي، هذا طبعاً بتواطؤ إرادي أو ناتج عن قلة الكفاءة من طبقة سياسية ترثنا جيلاً بعد جيل، بفضل الطائفية التي نخرت عظام هذا الوطن.

لم يتغير شيء. بالرغم من نزولنا الشوارع ومحاولاتنا للتغيير، وبالرغم من الطبعات المتلاحقة من "غضب الأهالي" التي تتوالى قطعاً للطرقات واقتحاماً للمصارف وحرقاً للدواليب، مسودة بالدخان خريطة الوطن من أوله إلى آخره، لم تهتزّ شعرة في مفرق السلطة السياسية والاقتصادية، أو مافيات المضاربة النقدية عبر مواقع الواتساب.

وطن تقتصر كينونة اللبناني فيه على صفة المستهلك دون صفة المواطنيّة إلا بالشكل. وطن ينتظر أبناؤه تحويلات المغتربين ليستطيعوا أن يصمدوا، فينتعش النظام بتلك التحويلات، وتقوى مقاومته لكل تغيير. وطن يستورد كل شيء، فـ"يلبس مما لا ينسج ويأكل مما لا يزرع"، كما قال مواطننا المغترب جبران خليل جبران، الذي برأيي لو لم "ينفد بريشه" هرباً من وطنه الحبيب لبنان، أو لو عاش في زماننا هذا، لكان أقصى ما استطاع الوصول إليه أن يكون مفتاحاً انتخابياً في بلدته بشري لقائد القوات اللبنانية سمير جعجع.

ضحى شمس
ضحى شمس
كاتبة وصحافية لبنانية.

مدونات أخرى