بين عمليتي "العبور العظيم" و"ألولا أبا نغا"
محمد مصطفى جامع
ذَكّرني الهجوم العسكري الواسع النطاق الذي يشنّه الجيش السوداني ضدّ مليشيا الدعم السريع منذ يوم الخميس 26 سبتمبر/أيلول الماضي بالعملية المعاكِسة التي شنّتها قوات دفاع إقليم تيغراي ضدّ الجيش الإثيوبي وحلفائه عام 2021، والتي حملت اسم "ألولا أبا نغا".
هناك الكثير من المشتركات بين العمليتين العسكريتين، أوّلها أنّ كلاً من قواتِ دفاع تيغراي والجيش السوداني استخدما استراتيجيّة الدفاع لفترةٍ ليست بالقصيرة ثم قاما بهجومٍ مُباغت ومُربكٍ على خصومهما، فعندما شنّ الجيش الإثيوبي وحلفاؤه (الجيش الإريتري وقوات أمهرة الخاصة ومليشيا فانو) حربهم على الإقليم في 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، كانت قوات جبهة تحرير تيغراي تنسحب من معظم المدن والبلدات بسهولةٍ على عكس المتوقّع. ومقاتلو التيغراي عُرفوا تاريخياً بشراستهم واستبسالهم في الدفاع عن أراضيهم، كما كانت لديهم قوّة مدرّبة ومسلّحة جيّداً نظراً لأنّ إرهاصات الصراع بين الجانبين بدأت منذ العام 2019 بحربٍ كلاميّةٍ ومناوشاتٍ بين حكومة الإقليم بقيادة رئيسها دبرصيون جبري ميكائيل والحكومة الفيدرالية الإثيوبية بقيادة رئيس الوزراء أبي أحمد.
على الأرجح، إنّ قوات تيغراي آثرت الانسحاب والتمركز في الجبال الشاهقة التي يشتهر بها الإقليم بعدما فُوجئت بهجمات طائرات الدرون الإماراتية التي قدّمت إسناداً جوياً هائلاً، وغير متوقّع للجيشين الإثيوبي والإريتري منذ اللحظات الأولى للحرب، وهو ما لم تتحسّب له القوات التيغرانية، إذ كانت الإمارات تمتلك في تلك الفترة قاعدةً عسكريّةً قرب ميناء عصب الإريتري، قبل أن تقوم الإمارات بتفكيك القاعدة لاحقاً وانعكس ذلك إيجاباً على أداء قوات تيغراي كما سنبيّن في مقالٍ آخر.
في ما يخصّ الجيش السوداني نلاحظ أنّه اتبع استراتيجيّة الانسحاب من معظم أحياء العاصمة الخرطوم عدا مقاره العسكريّة، كما انسحب من إقليم دارفور بأكمله عدا عاصمته مدينة الفاشر، وانسحب كذلك من ولاية الجزيرة ومعظم ولاية سنار. تسبّبت تلك الموجة من الانسحابات في سخط شعبي كبير واتُّهم الجيش بالتخلّي عن واجب حماية المدنيين المنصوص عليه في الدستور.
ومن حيث السرديّة كان هناك تشابه أيضاً، ففي الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني 2020 أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي، أبي أحمد، أنّه أعطى أوامر لقوات الدفاع الوطني الإثيوبية بشنِّ عمليّةٍ عسكريّةٍ شمالي البلاد، أُطلق عليها عملية "النظام والقانون" ضدّ الحزب الحاكم هناك (الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي) والمجلس العسكري أو ما أُطلق عليه الإعلام الرسمي اسم الطغمة العسكرية ومحلياً (جونتا) في تحريف محلي لكلمة (Junta) من دون مراعاة للنطق الصحيح للفظ بالإنكليزية.
قوات دفاع تيغراي والجيش السوداني استخدما استراتيجيّة الدفاع لفترةٍ ليست بالقصيرة، ثم قاما بهجومٍ مُباغت ومُربكٍ على خصومهما
إلى حدٍّ كبير يبدو اتهام الحكومة الإثيوبية لقوات جبهة تحرير تيغراي بشنِّ هجومٍ على معسكر رئيسي للجيش في المنطقة منتصف ليل 4 نوفمبر/تشرين الثاني ذو مصداقية، غير أنّ الإقليم كان مطوّقاً بالفعل قبل ذلك الهجوم من كلّ الاتجاهات، شمالاً من القوات الإريترية وبقية الاتجاهات من الجيش الإثيوبي وحلفائه. بالمقابل، كانت مليشيا الدعم السريع بقيادة، محمد حمدان دقلو، على أهبة الاستعداد لحرب 15 إبريل/نيسان 2023 بعد أن سمح لها الجنرال عبد الفتاح البرهان بالتمدّد وحريّة التسليح، فبعد ساعات قليلة من اندلاع الشرارة الأولى أعلنت الدعم السريع عن سيطرتها الكاملة على القصر الرئاسي في الخرطوم والمطار والوزارات والمقار الحكوميّة الرئيسيّة، كما أعلن قائدها محمد حمدان دقلو (حميدتي) بعد ظهر ذلك اليوم أنّه يحاصر قائد الجيش عبد الفتاح البرهان في القيادة العامة، وأنّه لا مجال أمامه سوى الاستسلام أو الاعتقال.
فالشاهد في هذه الناحية أنّ حميدتي كان واثقاً تمام الثقة من قدرة قواته لدرجة أنّه رفع سقف مطالبه في يوم اندلاع الحرب باعتقال البرهان أو استسلامه، بغضّ النظر عن صحة السرديّة التي يسعى لتثبيها هو والتحالف المدني "تقدّم"، وهي أنّ "فلول" النظام السابق هم الذين أشعلوا هذه الحرب باستخدام خلاياهم داخل الجيش.
بالعودة إلى حرب تيغراي نجد أنّ الفظائع التي ارتكبتها القوات المتحالفة ضدّ المدنيين دفعت الآلاف من شباب الإقليم للانضمام إلى القتال، حيث تولّى تدريبهم جنرالات سابقون مخضرمون مثل الجنرال تاديسي ووردي والجنرال صادقان ولدي تنسائي، والأخير قاد في العام 1991 الهجوم إلى جانب القوات الإريترية (التي كانت متحالفة مع جبهة تحرير تيغراي آنذاك) على العاصمة أديس أبابا وانتهى بسيطرة الجبهة وإطاحة نظام الديكتاتور منغستو هايلي مريام، حيث تولّى صادقان منصب رئيس الأركان وأعاد بناء الجيش الإثيوبي قبل أن يختلف مع صديقه رئيس الوزراء الراحل مليس زيناوي الذي أقاله لاحقاً من منصبه، ليشرع في إقامة مصنع للبيرة في مسقط رأسه بلدة رايا "جنوب تيغراي" كما أنشأ مشروعاً تجارياً للزراعة المحميّة، وبعد اندلاع القتال شعر صادقان كغيره من الجنرالات السابقين أنّ الحرب تستهدف شعب تيغراي بالكامل وليس الحزب الحاكم كما كان يقول أبي أحمد وحليفه إسياس أفورقي، فانضمّ الجنرال المتقاعد لرفاقه السابقين وأعادوا تنظيم صفوفهم في المقاومة المسلحة تحت مسمّى "قوات دفاع تيغراي" (TDF) بدلاً من قوات الجبهة الشعبية حيث انضم إلى التشكيل العسكري الجديد عشرات الآلاف من المتطوّعين، كثير منهم معارض للحزب الحاكم.
على مدى ستة أشهر كانت قوات دفاع تيغراي تتبع تكتيك حرب العصابات (الغوريلا) لقطع خطوط إمداد القوات الإثيوبية واستنزافها والاستيلاء على الأسلحة والذخائر حيث لم يكن لقوات التيغراي أي منفذ للخارج، إذ سيطرت قوات إقليم أمهرة الخاصة من الأيّام الأولى على منفذ الحمرة الرابط بين تيغراي والسودان، وبالتالي كانت عمليّة الحصول على الإمداد العسكري محفوفة بالمخاطر للقوات التيغرانية.
ولأكثر من ستة أشهر متتالية، كان المقاتلون الجدد في تيغراي يتدرّبون ويقاتلون بأسلوب حرب العصابات في الوقت نفسه. وبحلول مايو/أيار 2021، رأى الجنرال صادقان ورفاقه في اجتماع شهير تحت ظلّ شجرةٍ عملاقة أنّهم حقّقوا التكافؤ مع خصومهم، واتخذوا قراراً تاريخياً بشنِّ هجومٍ مضادٍ واسع النطاق أطلقوا عليه اسم عملية ألولا أبا نغا (Operation Alula Aba Nega). وهو محور مقالنا القادم، حيث سنحكي قِصّة الاسم ودلالاته وكيف سارت العملية مقارنة بعملية "العبور العظيم" التي يشنّها الجيش السوداني حالياً على مليشيا الدعم السريع.