بين الممالك والجمهوريات... من نختار؟
مع دخول سبعينيات القرن الماضي، كانت الدول العربية قد تحرّرت جميعها تقريباً من ربقة الاستعمار وتبعيته، وإن كان هذا الاستقلال ناقصاً في كثير من الأحيان، لكنه، على أقلّ تقدير، كان استقلالاً قانونياً ورسمياً.
وكان الاستعمار قد ترك دولاً يحكمها ملوك، جلّهم على توافق مع المستعمر بطريقة أو بأخرى، كما كانت الكثير من الجمهوريات العربية الحالية ممالك تحكمها أسر مالكة على وئام مع المستعمرين السابقين. ومع صعود التيارات الاشتراكية وانتشار الفكر الماركسي في الكثير من بقاع المعمورة، نالت المنطقة العربية حظّها من هذه الأفكار، وتأثرت شعوبها بالفكر الصاعد آنذاك، حيث فتن الكثير من الناس بالأفكار الاشتراكية، وبما حوته من مبادئ تدعو إلى المساواة والعدالة الاجتماعية، وتنادي بتذويب الطبقية التي تعدّ سمة بارزة لأي نظام ملكي.
كما لا يخفى على أحد، أنّ التاريخ العربي الحديث قد حفل بانقلابات عسكرية عديدة في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، أطاحت الملوك، وجاءت بأنظمة جمهورية خدعت الشعوب الحالمة بنداءات المساواة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، والتحرّر من استبداد الملوك وطغيانهم، ثمّ مرّت أحقاب من الزمن، لم تطاول الشعوب العربية خلالها من اليمن عنباً، ولا من الشام بلحاً. وبعد عقود طوال، ها هي العديد من هذه الشعوب تتغنّى وتتحسّر على العهود الملكية بعد أن ذاقت وعانت الأمرّين من ظلم الحكم الجمهوري وطغيانه، ما جعل من أيام الأنظمة الملكية البائدة أياماً خوالي يبكي الكثيرون على أطلالها، حيث لم تجنِ الشعوب المحكومة بالأنظمة العسكرية (الجمهورية) إلا الشقاء والحرمان، وبات الكثير من النخب فيها يعقد المقارنات بينها وبين الدول العربية الملكية الباقية إلى اليوم. فما الذي جعل هذه الأنظمة الجمهورية تفشل، وجعل الأنظمة الملكية تصبح مبتغى الشعوب؟
السبب يكمن في أنّ فشل الجمهوريات العربية من الجلاء والوضوح، بحيث لا يحتاج معه المرء إلى بحث أو دراسة، فرجل الشارع العربي البسيط يعرف أنّ الفشل سببه فساد النخب الحاكمة في تلك الدول وصعود جنرالات، همهم الوحيد سرقة الثروات ونهب الخيرات، ليضمنوا للغرب عدم وصول من لا يرضاه إلى السلطة، ولهذا يبقى بقاؤهم في مناصبهم مرهوناً بهيمنة الغرب على العالم.
الطاغية مهما طغى يعلم أنه سيأتي يوم ويغادر الكرسي بطريقة أو بأخرى، لذلك يسارع إلى النهب والسرقة دون اكتراث للوطن ومقدراته
لكن يبقى السؤال الأساسي: ما الذي جعل الممالك أفضل حالاً بكثير من الجمهوريات في الوطن العربي، على الرغم من أنّ منظري العلوم السياسية يرون في النظام الجمهوري عنواناً للمساواة بين أبناء الشعب الواحد، بعكس النظام الملكي القائم على الطبقية المقيتة، بحسب توصيفاتهم؟
إنّ واقع الحال المعاصر، أثبت أنّ الدول العربية المعاصرة بمكوّناتها الاجتماعية تناسبها الأنظمة الملكية لعوامل عديدة، منها أنّه في النظام الملكي ينقطع أمل الطامعين بالوصول الى سدّة الحكم الذي قضي أمره في أسرة واحدة لا يزاحمهما أحد في اعتلاء العرش، وهذه مزية هامة للنظام الملكي تكفل للبلاد الاستقرار السياسي، وخاصة في الدول ذات المكونات القبلية. كذلك إنّ اعتقاد الملوك بملكية الأرض ومن عليها، يجعلهم يولونها الاهتمام والرعاية، لذلك تجد في الممالك العربية، ولو لم تكن نفطية، البنى التحتية والنظافة العامة للشوارع والميادين والاهتمام بالخدمات المقدّمة، وجودة الحياة فيها بشكل عام تفوق نظيراتها في الجمهوريات، لأنّ طبيعة الأشياء تقضي بأن من يرعى ملكه ليس كمن يرعى ملك غيره. ومن ذات المنطق تجد الحكام الجمهوريين وزمرتهم الفاسدة تنهب وتسرق، ولا تبالي بحال الأرض ومن عليها، حيث إنّ تردّي الخدمات والبنى التحتية في العالم العربي غالباً ما يكون في الجمهوريات، فالطاغية مهما طغى يعلم أنه سيأتي يوم ويغادر الكرسي بطريقة أو بأخرى. لذلك، يسارع إلى النهب والسرقة دون اكتراث للوطن ومقدراته، بعكس الملك. فهو، وإن كان فاسداً أو سمح لحاشيته بالفساد، إلا أنّ عقيدة امتلاك الأرض التي يحكمها تجعله يهتم بها ويرعاها ويحرص على تطويرها.
زبدة القول، أننا نعيش في زمن التشرذم والتخلف الحضاري، وإذا كان خيار الدول العربية اليوم بين الممالك والجمهوريات خيارين أحلاهما مرّ، فالكفة بلاريب للممالك، إلى حين أن يقدّر الله لهذه الأمة الحكم الرشيد.