بين البطولة والمأساة

01 فبراير 2024
+ الخط -

حين تغادر أرض معركةٍ، راغبًا أو مضطرًّا، لا تغادركَ هي بالضرورة، إنّما يستمرّ استعارها فيكَ تمامًا، كما في الميدان. 

يستمرّ هاجسك، كابوسك، نزفك، تحفّزك... وفرارك للنجاة أبدًا (تلك التي ظننت أنّك فيها، وما زلت تفتّشُ عنها)، وفوق هذا كلّه: ستجلدك "عقدة الناجي" بلا توقّف. 

في الأولى على الأرض؛ ستغرقُ في المواجهةِ أو الفرار بلا لحظةِ استدراكٍ لموضعك منهما. تشغّل حواسك تلقائيًّا حالة الطوارئ، فتكفّ عن الطلب (راحةً واحتياجًا.. وانشغالاً)، هي فقط تركّز على ألّا تسقط.

في الثانية، داخل نفسك؛ مستوعِبًا لائمًا ستبقى، مواجهتك فيها مع ذاتك الهاربة وفرارك إلى ما فررتَ منه.

انتهت الطوارئ "ستقول لك". فالتفت، واستنفدت الطاقة، وهذا وقت استراحة المحارب، وهذه احتياجاتي التي وجبت تلبيتها. 

ستحيلُك كلّ تفصيلةٍ حياتيّة تعيشها إلى متخاذلٍ، لم يفِ الصحبة/المعركة حقّها.

سيعذّبك حنينك إلى الرفاق والأهل، أو من بقيَ منهم، ويشدّك إلى لحظاتكما معًا.

تتحسّس الحدّ الفاصل بين التعافي لتُكمل، والتعافي لتفرّ (تلكيكةُ الذين ضجروا الصراع، قنوطًا في الوصول، أو أرادوا فقط فلسفة الرحيل).

لم تعد ما كنتَ عليه، ولا جمُدَت الحياةُ على لحظتها التي كانت

"لتكملَ؛ عليكَ أن تتعافى" تردّد على نفسك ما يردّده عليك الآخرون. "هذا تبريرك للتخاذل" تردّ عليك.

أنتَ بحاجة لرؤية الحاصل ثم استيعابه، لتتعاطى معه، وإعادة إنتاج ذاتك القديمة بأدواتك القديمة، فقرٌ أو حماقة؛ إذ لم تعد ما كنتَ عليه، ولا جمُدَت الحياةُ على لحظتها التي كانت.

لكنّ المعركةَ لن تنتظر استيعابي، ستمضي قدمًا بموضعٍ فارغٍ كنتُ أملأه قبل الفرار. ومن قال إنّ امتلاءهُ بالمُتحايل ليس أسوأ من فراغه تمامًا؟

لكنّ المتحايل، سيغدو مسخًا لو ترك موضعه، حفاظًا على ذاته يفعل، كي لا يشوّهه اعتياد الجريمة والتطبيع معها، وإن لم يقدر على تغيير شيء في معادلتها.

...

ليس شخصك وحده في هذا الخضمّ، جيلك، وبلدك كلّه في موضعٍ مشابه. تتنازعه الحاجة لالتقاط الأنفاس، ليبدأ رحلته نحو التعافي واستعادة الذات، وإلحاح استمرار المعركة التي تبدو بلا نهاية.

ولا يلوح في الأفق أيّ التناقضين (هل هما تناقضان أصلاً؟) سينتصر، أم أنّها دائرةُ مغلقة تسلمنا خاتمتها لمبتداها بلا انتهاء؟

 فرحتُ لخروج معتز عزايزة ووائل الدحدوح من القطاع كما فرحنا جميعًا، آملًا بدءَ رحلتهما في التعافي بعد أن أدّيا دورهما قدر طاقتهما وزيادة، لكنّ هاجسًا ظلّ ينغز صدري: من سيبقى لو خرج الجميع، خصوصًا أولئك الذين ينقلون الصورة؟

غرقًا في الصراع بين القصّة التي تحكي البطولة، والإنسان الذي يعيش المأساة.