بعيداً عن غزة... قريباً من قاتلها
لا حماس، ولا سابع من أكتوبر، ولا طوفان الأقصى، ولا غزة التي بكفّها المخرز، ولا الشبّان القادمون من باطنِ الأرض، ولا الرجال الساكنون الأنفاق، ولا العبوات التلفزيونية المصنّعة من العدم، ولا العبوات المُجمّعة من بقايا الصواريخ مُبطَلة المفعول، مُعادة التدوير، ولا القنّاصة الذين تعلّموا القنص بالنبال أولًا، ولا الكرة الأرضية الأخرى تحت الأرض، ولا "مترو حماس" الذي تحت أرجل الجنود الإسرائيليين، ولا تقاطع الشهداء، ولا محور صلاح الدين، ولا تهديد أمن إسرائيل الوجودي، ولا تهديد بالزوال، ولا تهديد المستوطنات في الغلاف، ولا هي بقعة تحكم نفسها ذاتيًا بعيدًا عن السلطة، ولا شيء أبدًا من تلكم الحجج التي تذرّع بها الاحتلال للفتك بغزّة، ذبحًا وسلخًا وصلبًا وقتلًا واغتيالًا واعتقالًا وتجريفًا وتدميرًا.
لا شيء من ذلكم أبدًا، لا غزة جديدة في الضفّة، وإنّما بضعة شبّان في كلِّ حارة يجمع بعضهم بعضًا ويحمونها، من دون أن يشكّلوا أيّ تهديدٍ حقيقيِّ مُتضخمٍ في عقليّةِ ذلك المحتل، ولا أنفاق من تحت أرجلهم ليجرفوا البنيّة التحتيّة بزعم تفكيكها، ولا شيء يستدعي ذلك الغل الأسود المُتفاقم الذي يجعلهم يجرفون جثث الصغار بجرافاتهم بعد أن يمطروهم بالرصاص، أو يقصفوهم بالأباتشي والإف 35 الأميركية، ولا احتلال للبيوت التي يظنّونها "أوكارًا لحماس" حتى يهجّروا منها أهلها، نازحين يضع بعضهم أياديهم فوق أكتاف بعض، في مشهدٍ مؤلم، "كما لو كانوا في غزة"!
لم يكن الاحتلال يحتاج مبرّرًا ليفعل بغزّة ما فعل، حتى يحتاج مبررًا أو استثناءً ليفعل بالضفّة ما يفعل
والحل؟ أن تحكم السلطة غزّة حتى تنعم بما تنعم به الضفّة من أمان، فهذا هو أمامنا حكم السلطة وحال الضفة، لا يخفيان على أعمى، وقد نكّل الاحتلال بالأهالي كما لو كانوا غزيّين (وقد صار الغزّيون في عرف الاحتلال والعالم مضربًا للمثل في العقاب الجماعي)، كما لم تحمِ السلطة الرعيّة الذين استُؤمنت على حكمهم وصون حقوقهم، بل كانت معينًا للعدو عليهم، ومسوّغةً لقتلهم وإبادتهم وترويعهم، بل وتتلقى مهمّات تنوب بها عن الاحتلال نفسه، فتحاول اعتقال المطاردين، وتهديد الملاحقين، وتصفية مُثيري المتاعب الذين يضعونها في حرجٍ أمام سيّدها الإسرائيلي، فيهدّدها بقطع الرواتب والمنح والعطايا.
والخلاصة أنّ الاحتلال لم يكن يحتاج مبرّرًا ليفعل بغزّة ما فعل، حتى يحتاج مبررًا أو استثناءً ليفعل بالضفّة ما يفعل، فبعيدًا عن غزّة التي روّجوا عنها الأكاذيب وادّعوا المزاعم وصاغوا المهازل، يبقى الاحتلال هو الاحتلال نفسه، في كلِّ مكان، لا يريد من الفلسطيني إلا أن يعيشَ خادمًا لأهدافه، أو أن يموت على كلِّ حال، ولو في صمتٍ، ولو من دون أن يحدث حركةً واحدة، فذلك احتلال يضايقه الفلسطيني حين يبقى على قيدِ الحياة بوجهٍ عام، لأنّ كلّ فلسطيني حيّ يشغل حيّزًا من الفراغ، يعني ألّا يترك تلك الحصّة من الهواء للإسرائيلي الذي قدم للتوّ من أوروبا، هو احتلال يضايقه أن يتنفّس الفلسطيني، أن يحيا، أن يحلم، أن يكون!