بطاقة الجلوس... بلا حنان خضور
يتوجه الطلاب في فلسطين المحتلة لتقديم امتحانات المرحلة الثانوية "التوجيهي"، ولكنْ هناك في مدرسة ما مقعد دراسي فارغ بدون بطاقة جلوس، لأن الرصاص لم يمهل صاحبة هذا المقعد حق الجلوس عليه، حيث إن صاحبة المقعد رحلت قبل أن تعيش الخوف من الامتحان، حيث كانت الرصاصات أشد من الخوف قسوة وقهراً.
هي حكاية شهيدة كما كل الحكايات في فلسطين، تختلف في التفاصيل ربما، ولكنها لا تختلف حول الاحتلال والرصاص، وقتل الأحلام، حيث الجنون الإرهابي لدبابات الاحتلال التي اقتحمت مدينة جنين جاء ليستفز الدموع، والفقدان، ويهدم الأمل، والمدرسة، ودرج التعليم، وكرسي اللغة العربية. هو جنون اللصوص الذين سرقوا أوراق العنب، والبرقوق الفلسطيني، وخريطة الأرض في كتاب الجغرافيا، ودرس التاريخ حول نكبة 1948، ومعادلة الرياضيات، والأربعين دقيقة لحصة التربية الإسلامية التي تحدث فيها المعلم عن أولى القبلتين، والذي اسمه "المسجد الأقصى"، وليس "جبل الهيكل".
استشهدت "حنان"، هي كلمة خفيفة على اللسان، ثقيلة على القلب والعقل، حيث هنا أم حنان تتذكر أول يوم دراسي عندما ذهبت معها إلى المدرسة، وتتذكر عودتها من المدرسة، وكيف كانت تتحدث عن ساندويش اللبنة الذي ساعدها على محاربة الجوع، وتتذكر أيضاً المريول المدرسي ذا القبة البيضاء، وتجليد الدفاتر، ورائحة الكتب، واستلام بطاقة الجلوس بعد اثني عشر عاماً من الصعود نحو الأعلى داخل الصفوف الدراسية بتفوق، تلك اللحظة التي سبقها الذهاب إلى المصور من أجل التقاط صورة تضعها على البطاقة، وكانت تسأل أمها لحظتها: "ماما حلوة الصورة، طالعة بجنن صح؟"، ولم تكن تدرك "حنان" أن هذه الصورة الأخيرة للذكرى الأخيرة.
لقد كان الحصول على هذه البطاقة هو الفرحة الوحيدة وسط الكم الهائل من الخوف، الخوف من الامتحانات، والخوف ألا تتذكر الإجابة أمام السؤال، والخوف أيضاً من النوم دون حفظ المقطع الأخير من قصيدة "معين بسيسو" في كتاب اللغة العربية الصفحة "74"، والذي يقول فيه:
أقرأت أم ما زلت بكّاء على الوطن المضاع؟
الخوف كبّل ساعديك فرحت تجتنب الصراع
وتقول إنّي قد مللت وشقّت الريح الشراع
يا أيّها المدحور في أرض يضجّ بها الشعاع
أنشد أناشيد الكفاح وسرّ بقافلة الجياع.
ينبش استشهاد "حنان خضور" ذاكرتي ويعود بي إلى سجن "عوفر"، وخصوصاً زنزانة رقم "11"، كان يجلس بجانبي أسير اسمه "ضياء حروب"، حزيناً، منكمشاً على دموعه، وعند سؤاله: "ماذا هناك؟"ـ أجاب: شقيقتي الصغيرة "رنيم" اليوم أول يوم دراسي لها وكُنت قد وعدتها بأن أقوم بتوصيلها إلى المدرسة، ولكن الاحتلال حرمني من ذلك، وبعد أحد عشر عاماً على تحرر ضياء، ومن أجل تحويل الحلم إلى حقيقة توجه اليوم ضياء مع شقيقته "رنيم" إلى مدرستها في أول امتحان "توجيهي".
على شباك البيت وقفت أم حنان تخاطب طفلتها وتقول لها: "أملنا فيكِ كبير، أنتِ أول فرحتنا"، ولم تكن تدرك أم حنان أن الفرحة تحولت لنقيضها عند تلقيها خبر إصابة "حنان"، على الرغم من أن هذه الأم قالت لطفلتها: "بلاش تنزلي يما على الدرس اليوم"، ولكن "حنان" طلبت أن تختار معها الملابس الأكثر أناقة للدرس، كأنها كانت تدرك أن هذا الدرس الأخير، حيث إن الدرس مع الرصاص حتماً يكون أنيقاً، وقالت لأمها على العتبات الأخيرة: "بدي اجيب معدل، وأفرح بابا".
ولكن كان هناك هاجس يقتل فكرة المعدل، ويقول لحنان: "اليهود بدهم يطخوا بابا، وأخوتي"، ولكنها تُمسك يد والدها وتقول له: راح أفرحك، وأجيب علامة حلوة بالتوجيهي، ولكن الهاجس كان كاذباً، متحايلاً، لأن اليهود "طخوا حنان"، وقتلوا فرحتها، ونهبوا صوتها.
لم يكن رحيل "حنان" إلا مجموعة من الأسئلة المتراكمة دون إجابة، حيث المشكلة ليست في الإجابة بل تكمن في الأسئلة، حيث سأل والدها: "كيف تخرج حلوتي لدراسة ولا ترجع؟"، ويسأل شقيقها الصغير: "أين حنان؟"، وتسأل أمها: "أين ذهبت هذه الطفلة الوحيدة التي كانت تساعدني في البيت؟".
هي أسئلة تخاطب الموت المتناثر مع الورود محاولاً تجميل نفسه، هي أسئلة أيضاً تعود إلى الانتفاضة الثانية، حيث ركض والد حنان حاملاً طفلته بين الدبابات، والاشتباكات، والحواجز، والموت هنا يأتي بشكل طائش، ومجنون، ولكن إصرار والدها أن يعالجها جعله يقف أمام الجندي ويقول له: "طخني، البنت ميتة"، وبعد وضعها على جهاز التنفس الاصطناعي داخل المشفى، عادت للحياة لمدة ثمانية عشر عاماً، ولكن الجندي ما زال هنا يحمل السلاح بيديه، والموت في رأسه على شكل رصاصة، ويعود التاريخ ليقول لوالدها: "البنت ميتة، طخوها".
بقيت بطاقة الجلوس عليها الاسم، والصورة، ورقم الجلوس "10046015"، ورحلت "حنان" وما زالت وحدة المصفوفات تنتظرها، وخلال ستة أيام كانت تنهض من محاورتها مع الرصاص، وتسأل العائلة أين كتاب الرياضيات؟، ورحلت أيضاً وما زال السؤال الثالث ينتظرها في وحدة قواعد الاشتقاق المغمس بإجابة الدم، ولكنها اشتقت من الرصاص شهادتها، والسؤال ما زال يغني لها أمام معهد الدراسة:
في حزن وسع المدى
في وجع جوا عميق
لا صوت باقي ولا صدى
ولا مين يكفي الطريق
فضيوا المطارح يا زمن
راحوا اللي هون اتجمعوا
رسموا سوى صورة وطن
وأول شرارة ولعوا