بسطة الدولار
في المطبخ الشرقي هناك ثلاث صلصات، هي أساس كلّ الأطباق مهما تنوّعت: الصلصة البيضاء، أي من اللبن أو الحليب، الصلصة الحمراء وتعد من البندورة، وصلصة المتبل، أي بالثوم والحامض وزيت الزيتون. لكن شعوب المنطقة نوّعت، بدرجة أكبر أو أقل، الأطباق المحضّرة من تلك الصلصات حسب سعة مخيلتها، وميل أذواقها، والمتوفّر من عناصرها.
وربّما كان اللبنانيون خاصة، والفلسطينيون والسوريون، أي أهل بلاد الشام عامة، الأكثر ابتكاراً بالمقارنة مثلاً مع المطبخ التركي، الذي يستند هو الآخر إلى تلك الصلصات الثلاث.
يتجلّى هذا التنوع خاصة في عدد صحون المازة مثلاً، أي تلك الأطباق الصغيرة التي تُبسط على مائدة أنس شاربي العرق، المشروب الوطني، لترافقهم في جلسة، عادة ما تكون طويلة، يصحبها أحيانا غناء أو زجل. فقد بلغ عدد تلك الأطباق في أحيان كثيرة أكثر من ستة وثلاثين طبقاً مختلفاً. صحيح، نحن نتمتع بمخيلة واسعة حين يكون الأمر متعلّقاً بمتعة أفواهنا.
هذه القدرة على التنويع والابتكار خدمت (إن صح التعبير) تعاملاتنا في كلّ شيء. من نظامنا السياسي الهجين الذي يمكن وصفه بالديمقراطي الطائفي، أو الديمقراطية التوافقية، وهذا تنويع على صلصة الديمقراطية الأساسية، واختراع لبناني بحت يمكن أن يُسجل كملكية فكرية، وصولاً، أخيراً، إلى ابتكار أنواع جديدة من الدولار مبنية على تنوّع حاجاتنا من جهة، وعلى نتيجة المفاوضات والتسويات التي تمّت ولا تزال تتم، بين مختلف القطاعات، كقطاع المستشفيات أو الاتصالات، وبين المصرف المركزي أيام "منصة صيرفة"، التي اختزعها حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، والتي أوجدت عدّة أسعار صرف للدولار.
وكما يمسّ حجر الفلاسفة الأسطوري أيّ شيء فيحوّله إلى ذهب، على ما تدّعي الخرافة، مسّ الإبداع اللبناني العملة الأميركية الخضراء فحوّلها إلى مازة اقتصادية متنوعة تختار منها ما تشاء حسب الحاجة والذوق استناداً إلى الصلصة الأساسية التي هي الدولار.
لدينا اليوم تشكيلة واسعة من الاختراعات المحلية لهذه العملة القائمة على اختلاف أسعار الصرف:
عندنا أولاً الدولار الرسمي، وسعر صرفه قد تغيّر أخيراً فأصبح 85 ألف ليرة لبنانية بدلاً من ألف وخمسمئة ليرة فقط لا غير، كما كان منذ أواسط التسعينيات بشكل مفتعل، متسبّباً بالكارثة الحالية.
هذا الدولار الرسمي هو الذي وضعت على أساسه موازنة البلاد التي ولدت أخيراً بعد تسعة أشهر من انتهاء مهلة تقديمها! أي؟ وبغض النظر عن تأخيرها، فإن تغيّر سعر الصرف ستتغير الموازنة. وهو قد تغيّر في الفترة الماضية بعد خروج حاكم مصرف لبنان في نهاية تموز/ يوليو المنصرم من الحاكمية، ولا أعرف ما الذي حصل بعدها. فالمتابعة مرهقة لمن هم مثلي، يضيعون بين الأرقام إن تجاوزت قيمتها مخيلتهم. فكيف إن كان عليهم أن يحصوا ويستوعبوا أنواع الدولار المستحدثة وأسعار الصرف المجهولة المصدر؟
يطلق اللبنانيون اسم اللولار على دولار الودائع المحجوزة في البنوك. واللفظة جاءت من دمج الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي
ثم لدينا: اللولار، أي دولار الودائع المحجوزة في البنوك. واللفظة جاءت من دمج الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي، وسعر صرفه حدّده الحاكم السابق لمصرف لبنان المركزي رياض سلامة تارة بثمانية آلاف ليرة حسب التعميم 151، وأخرى 15 ألف ليرة حسب التعميم 158، في حين أنّ سعر السوق السوداء وصل إلى أكثر من 140 ألف ليرة.
ثم هناك الدولار الفريش، أو الطازج، وهو كما يدل اسمه عكس اللولار البائت الذي يتصيّده اللبنانيون من بحور التحويلات الخارجية أو الرواتب بالعملة الخضراء التي ترد إلى لبنان بعد سابقة حجز الودائع.
ثم هناك دولار السوق السوداء، الذي تتحكم بسعر صرفه منصات الواتساب التي لا يعرف أحد من الذي يديرها.
كما لدينا سيدتي: الدولار الجمركي، وهو الذي حدّده مصرف لبنان المركزي، وسعره يختلف عن سعر اللولار والسوق السوداء و"منصة صيرفة" المتوقفة عن العمل، والتي بسببها توقف دفع أجور القطاع العام لأكثر من شهر.
كما لدينا الدولار الطالبي، وهو سعر صرف مدعوم أقرّته الحكومة تحت ضغط أهالي الطلاب المتروكين في الخارج في عراء مالي تام، إثر حجز الودائع وعدم قدرة هؤلاء على تحويل أموال بالعملة الصعبة حسب سعر السوق السوداء الذي حلّق بعيداً عن متناولهم.
كما لدينا الدولار الاستشفائي الذي أُقرّ بعد مفاوضات بين تعاونية موظفي الدولة والمستشفيات، وهو يحتسب على سعر 75 ألف ليرة، أي أقل من سعر الصرف الحالي الذي يقارب التسعين الفاً.
آه... ولا يجب أن ننسى دولار فاتورة الكهرباء، وهو احتُسب على سعر "منصة صيرفة"، إضافة إلى عشرين بالمئة. كما هناك دولار الخليوي الذي يوازي سعر "صيرفة"، وهي أقل من السوق بقليل.
يوجد في لبنان دولار قضائي أيضاً، أي سعر صرف خاص بالمعاملات القضائية! أي والله. تصوّروا.
وأخيراً اكتشفت أنّه لدينا دولار قضائي، أي سعر صرف خاص بالمعاملات القضائية! أي والله. تصوّروا.
أضف إلى هذه التشكيلة الواسعة ما يسمّى بدولار القطاع العام، وهو سعر صرف خاص برواتب ونفقات هذا القطاع الذي استلم رواتبه لهذا الشهر، بعد وصول نائب الحاكم إلى سدّة السلطة، بالدولار الفريش حسماً للنقاش وتوخياً لبعض الاستقرار في مرافق الدولة التي هجرها الموظفون سعياً وراء لقمة عيش إضافية تعوّض انهيار رواتبهم.
أما الدولار المدهش فهو دولار الجامعة الأميركية، وهو يساوي 110 آلاف ليرة، أي أنه أغلى من سعر صرف السوق السوداء بعشرين ألف ليرة ونيف، في حين أنّ أسعار صرف كلّ أصناف الدولارات الأخرى أقل من أسعار صرف تلك السوق (السوداء).
أمّا لماذا؟ فالعلم اليقين عند الله، فالأميركان الذين تتبع لهم هذه الجامعة ومستشفاها متفائلون على ما يبدو بمستقبل البلد ومؤمنون بتدهور العملة الوطنية، لذا يستبقون ذلك بحماية ما يتقاضونه من مبالغ من أهالي الطلاب أو مرضى المستشفى، عبر زيادة على سعر السوق، فلا تتأثر ميزانيتهم عندما يبدلون ليرات لبنان بدولارهم الذي يحكم البلد.
منتصف الثمانينيات انهار سعر صرف الليرة اللبنانية أمام الدولار. وفي غمضة عين تحوّلت رواتب ضخمة إلى فتات. يومها، سرت نكتة مرّة مفادها أن أمين الجميل، رئيس الجمهورية حينذاك، قد فاز بجائزة نوبل للكيمياء لأنه حوّل الليرة اللبنانية إلى قمامة.
يبدو أنّ هذه الأخيرة هي الطبق الوحيد المتبقي على مائدة المواطنين من غابر موائدهم العامرة.