بانتظار الأب الغائب

14 اغسطس 2023
+ الخط -

تحمّلت زهرة غلاظة أهل زوجها وأقاربه، فضلاً عن كثير من المنغصات والآلام من أجل اللحاق بزوجها الذي غادرها مرغماً قبل ثلاث سنوات إلى البلاد الأوروبية بحثاً عن الأمان والاستقرار، بعد دفعه الغالي والنفيس لجهة الوصول إليها رغم تعرّضه لكثير من الصعاب.

في أكثر من مرّة فكر بالعودة إلى وطنه الأم نتيجة تفاقم المشكلات التي واجهته في بلاد اللجوء مع زوجته، بحيث لم يَعُد هناك أي حل يمكن أن يعيد العلاقة بينهما إلى ما كانت عليه، ما دفعه إلى التفكير بالخلاص منها بصورة جدية، وهو الحل الذي يمكن أن يحسم معه الخلاف القائم بينه وبينها والذي طال لأشهر لا سيما أنّه ملَّ التعايش معها، ولم تعد مبالية بالطلاق منه الذي كان يُخيفها يوماً.

في هذه المرّة اختلفت الأمور كثيراً، فالطلاق صار بالنسبة لها أمره هيناً، والسبب هو التقتير الذي أظهره لها وعدم الإنفاق عليها بالصورة التي كانت ترغب، بذريعة عدم توافر المال الذي يمكن أن يفكّ كثيراً من المشكلات التي تعترض إكمال علاقتهما الزوجية التي أصبحت شبه مستحيلة فيما بعد.

في تلك البلاد الأوروبية رفعت زهرة سقف مطالبها، وفي أكثر من مرّة حاولت أن تخوض التجربة الجديدة معه بعدم الرضا بالمقسوم، إلّا أنّ الاحتياجات التي صارت تتطلبها ضرورية، وهي طلبات محقّة، وتوافرها يلزمه الكثير من المال، ناهيك عن الإنفاق على الأسرة، وهذا ما يتطلب من زوجها بيع الأرض التي يملكها في بلده لجهة سداد ديونه التي تراكمت.

في تلك البلاد الأوروبية رفعت زهرة سقف مطالبها، وفي أكثر من مرّة حاولت أن تخوض التجربة الجديدة معه بعدم الرضا بالمقسوم

كانت علاقتها بزوجها خلال فترة الانقطاع عن بعضهما البعض طوال السنوات الثلاث التي سبقت فترة حصوله على الإقامة الأوروبية علاقة هامشية. لم يكن هناك أي تواصل بين الطرفين، وكل ما هنالك أنه كان يتصل مع أبنائه للاطمئنان عليهم، ويرسل لهم مع نهاية كل شهر مبلغاً من المال يسدّون به رمقهم، بالإضافة إلى دفعه إيجار البيت الذي يقيمون فيه.

وبعد وصولهم إلى المدينة التي يقيم فيها تغيرت أحوال زوجته جذرياً، وكانا يتأملان الوصول إلى حل يرضي الطرفين، إلّا أن ذلك الأمل بعودة العلاقات لم يكتب له النجاح، بل ازدادت القطيعة مع مرور الأيام، ولم تعد هناك أي حلول تلوح في الأفق بعودة المياه إلى مجاريها، وصار كلٌ يمضي في جر اللّحاف إلى جهته.

في أكثر من مرة يزور فيها أصدقاءه في المدينة التي يعيش فيها لساعات طويلة، ويقضي يومه متردداً بين هذا وذاك. وهذا ما صاحبه مزيد من الأرق والملل، فضلاً عن الآلام والأوجاع التي دفعت به مراراً إلى مراجعة طبيب الأسرة للتخلص من الأمراض التي بدأ يحسّ بها.

صار يؤكد أنّ الحياة مع زوجته لم تَعُد تُحتمل، الحل هو الخلاص من رمادية مأسوف عليها، بعد أن تمكن من تأمين الكثير من احتياجات أبنائه في غربتهم. مطاليب تسعفه على حل مشاكل الحياة وما أكثرها. في كل مرة يأخذ فترة من الراحة وينتظر، وفتح مساراً جديداً كرمى لعيون أبنائه الذين يعانون واقعاً مريراً، ويتابعون ما يحدث من مشكلات وخلاف في وجهات النظر بين والديهما.

استمرت العلاقة هامشية لأكثر من سبعة أشهر، وما زالت الحلول غائبة، وعلى الزوج أن يفكّر جدياً في ترك أسرته ومغادرة بلد الإقامة الذي يعيش فيه مع زوجته وأولاده، وتحمّل كثير من المنغصات والهموم، وقراره هذا لم يأتِ عن عبث وإنما نتيجة واقع لم يعد يطاق، ففضل العودة إلى مدينته الأم، وقرر العمل على فلاحة وزراعة الأرض التي يملكها بعيداً عن أسرته، وهذا ما صار يفكر فيه ويأمل بتنفيذه، بينما ظل مواظباً على العمل الذي عشقه برغم الجهد الكبير الذي يبذله لقاء حصوله على مردود مالي بسيط لا يتناسب مع ما يقدمه من جهد وأرق، والأمل الذي كان يتوقع له أن يحقق نجاحه في دول الاتحاد الأوروبي أسوة بغيره من الأصدقاء والأقارب الذين استقروا هناك، وباعوا ما بحوزتهم لقاء العيش بأمان واستقرار بعيداً عن بلد سَحق أبناءه، وأذلّهم نظام ظالم صار يحاربهم في لقمة عيشهم، وزجّهم في السجون.

وبعد مضي عامين على غيابه عن زوجته وأولاده، وتفضيله الأرض التي وطأتها قدمه، مشغولاً بفلاحتها وزراعتها، وهو الذي لم يسبق له أن خاض مثل هذه التجربة المجهدة ومعرفة بالزراعة، قرر أخيراً ترك العمل بالأرض والتفكير في العودة من جديد إلى حيث يقيم أولاده وزوجته الذين صاروا بحاجة ملحّة له أكثر من أي وقت مضى.

بعد عراك استفحل مطولاً لم يصل إلى حل يمكن معه أن ينهي مشكلة ظلت قائمة مع أخيه البكر، وبقية إخوته الذين كانوا يمانعون في بيع شبر من الأرض التي يستثمرها أخوه ويؤول معظم إنتاجها إلى جيبه الخاص، بالإضافة إلى دار السكن التي كانت تؤويهم ولقيت حتفها نتيجة تعرضها للدمار والخراب الذي سبق أن نال من المدينة التي ولد وعاش فيها ردحاً من الزمن، وقضى بقية عمره عاملاً في إحدى الورش في بيروت، قبل أن يفكر في الرحيل إلى البلاد الأوروبية التي وصل إليها في المرة الأولى، وحاول في المرة الثانية أن يعيد الكرّة إليها بعد أن استفحل الخلاف على بيع أرض الورثة، وعدم إكمال مشروعه الزراعي الذي حلم به يوماً بفلاحة وزراعة أرضه الخاصة به، وأنهكه التعب والجهد والأرق، ما جعله يترك ذلك بصورة نهائية والعيش بمفرده بعيداً عن أهله وأصدقائه ورفاق دربه، فيما بقي أولاده وزوجته يكملون مشوار الحياة في بلاد الغربة يتأملون عودة والدهم الغائب!

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.