انتهى به الأمر مقتولاً على يد صلاح الدين
شهدت الدولة الفاطمية في مصر أوج قوّتها وتوسّعها في عهد الخليفة الفاطمي المستنصر بالله الذي حكم ما يقارب 60 عاماً، إلا أنه في أواخر عهد المستنصر بالله ابتليت مصر بمجاعة هائلة استمرت سبع سنوات من 1065 إلى 1071م، والتي تُعرف في التاريخ باسم (الشدَّة العظمى) أو (الشدَّة المستنصريَّة)، وعلى إثرها تدهورت الأوضاع في الدولة الفاطمية وعمّت الفوضى في أقاليمها، فقطعت مكة والمدينة الخطبة للمستنصر بالله وخطبت للخليفة العباسي في بغداد، كما انتهز السلاجقة الفرصة وتمكنوا من انتزاع بلاد الشام وبيت المقدس من الفاطمية عام 1070م.
وأمام هذا الواقع المرير، استعان الخليفة الفاطمي المستنصر بالله عام 1073م بوالي عكا، بدر الدين الجمالي، الذي استطاع في سنوات معدودة إنقاذ مصر من مجاعتها، وضرب بيد من حديد على العابثين والخارجين، وبسط نفوذ الدولة الفاطمية في جميع أرجاء البلاد، إلا أنه استبدّ بالحكم حتى أصبح هو الحاكم الفعلي للدولة الفاطمية.
وعندما توفي الخليفة الفاطمي المستنصر بالله عام 1094م تدخّل بدر الدين الجمالي ومن بعده ابنه الأفضل في شؤون الحكم، فقاموا بتنصيب الابن الأصغر للمستنصر، المستعلي بالله، على رأس الدولة الفاطمية (1094-1101م)، حارمين بذلك الابن الأكبر للمستنصر وولي العهد، نزار، من حقه الشرعي في اعتلاء عرش الخلافة، وقد حاول نزار استعادة حقه في عرش الخلافة الفاطمية إلا أنه وقع في الأسر ليُسجن ثم يقتل، وبهذا الانقلاب الذي نفّذه الوزير الأفضل بدأ عهد الوزراء الفاطميين الذين استبدّوا بالحكم في الدولة الفاطمية، وأصبح الخلفاء الفاطميون لعبة في أيديهم.
في عهد الوزير الأفضل الفاطمي تطورت الأوضاع في المنطقة على إثر غزو صليبي لبلاد الشام، فانتهز الأفضل الفرصة وتحالف مع الصليبيين ضد السلاجقة، فحشد الجيوش وحاصر بيت المقدس وأخذها من السلاجقة، وبسط سيطرته بعدها على كامل فسلطين، إلا أن الصليبيين سرعان ما غدروا به وتقدموا نحو بيت المقدس بقوة عسكرية قوامها نحو 40 ألف مقاتل، فضربوا حصارا حولها وانتزوعها في شهر يوليو/تموز عام 1099م من الفاطميين، بعد مذبحة عظيمة راح ضحيَّتها عشرات الآلاف من سكانها المرابطين.
سئم الخليفة الفاطمي العاضد من وزيره شاور، وأرسل يطلب يد المساعدة من نور الدين زنكي الذي أرسل بدوره على وجه السرعة حملة عسكرية بقيادة شيركوه
وعبثاً، حاول الأفضل طرد الصليبيين من فلسطين وبيت المقدس، إلا أن جميع محاولاته باءت بالفشل، وانتهى به المطاف أن اغتيل في عيد الأضحى عام 1121م، وقد أشيع أن الحشاشين هم الذين اغتالوه انتقاما لخلعه وقتله الخليفة الشرعي نزار. ومن بعد اغتيال الأفضل دخلت الدولة الفاطمية في حالة فوضى وصراع بين الوزراء أنفسهم من جهة وبين الوزراء والخلفاء الفاطميين من جهة أخرى، وفي أتون الصراع على الوزارة قام أحد قادة الفاطميين ويدعى شاور بالاستيلاء على الوزارة عام 1162م بعد قتله الوزير الفاطمي العادل زريك، إلا أنه لم يمض على وزارته سوى تسعة أشهر حتى تمكن أبو الأشبال ضرغام من الاستيلاء على الوزارة وخلعه.
ففر شاور واستعان بنور الدين زنكي ووعده بثلث خراج مصر في حال استعادة الوزارة، وأن يسمح للقوات الزنكية بالإقامة في مصر، وبعد تردد وافق نور الدين زنكي على تقديم مساعدة لشاور، ولكن بشرط أن يعترف بسيادة نور الدين على مصر، فوافق شاور على ذلك.
وبناءً على هذا الاتفاق، أرسل نور الدين زنكي حملة عسكرية إلى مصر بقيادة أسد الدين شيركوه الذي اصطحب معه ابن شقيقه صلاح الدين الأيوبي، وبالفعل تمكن شيركوه عام 1164م من هزيمة ضرغام وقتله وإعادة شاور إلى الوزارة، إلا أن شاور نكث بعهده مع نور الدين زنكي ورفض الاعتراف بتبعيته له، فما كان من شيركوه إلا أن تحصن في مدينة بلبيس في دلتا مصر استعدادا لخلع شاور.
وأمام هذه المستجدات، استعان شاور بملك مملكة بيت المقدس، الملك عموري الأول، الذي جرد حملة عسكرية نحو مصر لنجدت شاور في أغسطس 1164م، وفرض حصارا على مدينة بلبيس التي يتحصن بها جيش شيركوه بِمشاركة الجيش الفاطمي بقيادة شاور، وحتى ينقذ نور الدين زنكي قواته المحاصرة في مدينة بلبيس، سارع وهاجم الأراضي والقلاع الصليبية في مملكة بيت المقدس، مما دفع الملك عموري الأول إلى الدخول في مفاوضات مع شيركوه، والتي على إثرها غادر الصليبيون وقوات شيركوه مصر وتسيد شاور الوزارة من دون منازع.
وأمام إلحاح شيركوه الذي لامس رخاوة الجبهة المصرية، أرسل نور الدين زنكي في عام 1167م حملة عسكرية بقيادة شيركوه للاستيلاء على مصر، وما أن علم شاور بخبر الحملة الزنكية حتى سارع للاستعانة بحليفه عموري الأول الذي شعر بخطر توحد مصر وشام في حالة سقوط مصر، فسارع هو الآخر لإعداد حملة عسكرية للوقوف أمام طموحات نور الدين زنكي، وما أن وصلت قوات عموري الأول حتى رحب بهم شاور ومنح الصليبيين أراضي ومنازل في القاهرة.
في 18 إبريل/نيسان عام 1167م وقعت معركة البابين التي استمرت ثلاثة أيام بين المعسكر الزنكي والتحالف الصليبي الفاطمي، وانتهت المعركة بهزيمة ساحقة للمعسكر الصليبي الفاطمي، إلا أن شيركوه لم يستغل الفرصة ويلاحق قوات التحالف الصليبي الفاطمي إلى القاهرة، بل توجه نحو مدينة الإسكندرية.
وهذا الحدث سمح للتحالف الصليبي الفاطمي بتجميع شتات قواتهم والكرّة مرة أخرى، فحاصروا الإسكندرية، وقد كان شيركوه قد شعر بفداحة خطئه فقرر قبل الحصار أن ينسل بجيشه خارج الإسكندرية، وترك فيها قوة عسكرية بألف مقاتل تحت قيادة صلاح الدين الأيوبي، ثم توجه شيركوه وهاجم مدينة القاهرة في يوليو 1167م، مما أجبر التحالف الصليبي الفاطمي على الدخول في مفاوضات مع شيركوه، وبالفعل تم الاتفاق على أن ينسحب الجيش الصليبي والزنكي من مصر على أن تؤول أمور الحكم في مصر لشاور للمرة الثانية، وما أن غادرت قوات شيركوه مصر حتى سمح شاور لقوة صغيرة صليبية بالبقاء في القاهرة، فزين لعموري الأول الاستيلاء على مصر، بالفعل جهز عموري الأول حملة عسكرية في عام 1168 وأوهم نور الدين زنكي أنه يجهز حملة لمهاجمة بلاد الشام ثم توجه نحو مصر وفرض حصارا مشددا على القاهرة.
وأمام هذا الواقع المرير سئم الخليفة الفاطمي العاضد من وزيره شاور، وأرسل يطلب يد المساعدة من نور الدين زنكي الذي أرسل بدوره على وجه السرعة حملة عسكرية بقيادة شيركوه، وما أن علم ملك عموري الأول بخبر الحملة الزنكية قرر التراجع والانسحاب مصطحباً معه 12 ألف أسرة من أهل مصر، وفي المقابل تمكن شيركوه من دخول القاهرة.
أما عن نهاية شاور، فقد قام صلاح الدين بإلقاء القبض عليه وقتله وأرسل رأسه إلى الخليفة الفاطمي العاضد، وفي المقابل عين الخليفة الفاطمي العاضد شيركوه وزيراً على مصر، إلا أنه لم يعمر طويلًا في الوزارة، إذ توفي بعد شهرين، فخلفه صلاح الدين في الوزارة بأمر من الخليفة الفاطمي العاضد الذي توفي في الأول من 1171م، فانطفأت بوفاته آخر شمعة في عمر الدولة الفاطمية، فقطع صلاح الدين الخطبة بمصر للخليفة الفاطمي وأقامها للخليفة العباسي، وبذلك عادت مصر إلى كنف الدولة العباسية، وأصبحت مصر بناءً على هذا التطور تابعة للدولة الزنكية في بلاد الشام بقيادة نور الدين زنكي.