انتصار غزة وسط الدمار

انتصار غزة وسط الدمار

23 مارس 2024
+ الخط -

نستيقظ كلّ صباح منذ أكثر من مائة وستين يومًا على أخبارِ القتلِ والتدمير، لنغرق في دوامة القهر والعجز مرّة أخرى، ولكن هناك في قلب غزة تحت شلال الدم المتدفق، ووسط الركامِ والتهجير وآلام الفقد والخسارة، تكمن قصة صمود آخر معاقل الحرية، صمود لا يتزعزع يتطلع نحو انتصارٍ قادمٍ بإذن الله، كنتيجة لتضحيات الغزّيين غير المسبوقة، انتصار للغزّيين وحدهم دون سواهم، فهم من قاوموا وثبتوا، واستشهدوا، وجُرحوا، وهُجّروا، وجاعوا، فيما العالم يتابع يوميات الإبادة حتى صار إِلى فُسْطاطَين، فُسْطاطِ إجرامٍ لا إنسانية فيه وفُسْطاط إنسانيةٍ، ما زالت خجولة مع إمكانية للنضوج والقيام بواجبها بشكلٍ كامل.

وبينما نستمر بالدعاء إلى الله كلّ صباح ومساء، أن يطفئ نار حرب الصهاينة وتتوقف المذبحة، يستمر الغزّيون بصمودهم وإيمانهم بأنّ نصر الله قريب. وعلى الرغم من عظم التضحيات التي يستمر الغزّيون بتقديمها تحت نيرانِ وحصارِ العدو الصهيوأميركي الهمجي، فقد خرج الفلسطينيون منتصرين، لم تنكسر روحهم، وفازت قضيتهم، وأسقطوا ورقةَ التوت الأخيرة عن همجية الغرب ونفاقهم وخيانة من والأهم حول العالم.

وبينما يتفنّن الاحتلال وداعموه من الطبقات الحاكمة من المستبدّين حول العالم في إظهار قدرتهم على البطش والفتك بالنساء والأطفال والرجال المدنيين، متباهين بنفوذهم وقدرتهم على الإفلات من العقاب، ومواردهم وقوتهم المرعبة التي قد تبدو لغير المؤمنين، العامل الحاسم في النصر، يتجلّى وسط كلّ هذا الظلم والقهر النصر الحقيقي الذي كان من نصيبِ شعب فلسطين الحرّ، والحركة العالمية المتضامنة معه، حيث الصمود الأسطوري لأهل غزّة هو حجر الزاوية في هذا النصر. فهم، في مواجهة المعاناة والخسارة التي لا يمكن تصوّرها، رفضوا التنازل عن كرامتهم وأحلامهم في الحرية، وتألقَ صمودهم كآخر منارات الحرية في هذا العالم، وذلك على العكس من جموعِ المتصهينين، ممن احترفوا الانبطاح واستلّذوا الذلّة. فقد ألهم صمود الغزّيين وصبرهم الأحرار حول العالم لينتفضوا في وجه ظلمِ المجتمع الدولي، مُوقدين شرارة حركة عالمية تسعى لتغيير المشهد برمته، في نصرٍ آخر لقضيتهم، وحتى لو لم تظهر نتائجه الآن، سيظهر أثره المزلزل لعروش المستبدّين والقتلة بعد حين.

روح المقاومة لا تنكسر والتوق إلى الحرية لا ينتهي

لقد تفرّقت عائلات، ومُحيت أخرى بأكملها مع استشهادِ جميع أفرادها، وتجمّع من تبقى معًا حول نيران الألم في خيام وملاجئ مؤقتة، بعد أن تحوّلت المنازل الدافئة الجميلة التي ضجّت بصخب الحياة والحب يومًا ما، إلى ركامٍ حبسَ تحته أجساد الشهداء الطاهرة بسبب قصفِ الاحتلال الذي استهدف بشكل متعمّد المدنيين وبناهم التحتية، مدمّرًا البشر والحجر. وبينما يستمر كلّ يومٍ جديد بحملِ أهوال ومآسي تثقل القلوب، فإنّ روح المقاومة لا تنكسر والتوق إلى الحرية لا ينتهي. ولكن بعد كلّ هذه التضحيات لا نستطيع أن نطالب الغزّيين بتقديم المزيد، فالنصر لا يقع على عاتقهم وحدهم، بل يجب أن يكون نتيجةً لحركةٍ عالمية تلهب مشاعل المعارضة والاحتجاج وحركات التغيير والمقاطعة والتبرّع والتطوّع وتسخير أدوات العدالة وتوثيق السردية. الحركة التي شهدنا امتدادها من شوارع المدن الكبرى إلى الجامعات، ومن الأرضِ إلى العالم الافتراضي، ومن المنظمات الدولية إلى الحركات الشعبية في الأحياء المهمّشة، حيث احتشدَ الناس تضامنًا مع غزّة وحقها في المقاومة والحياة، وبدؤوا بكسر القيود والتخلّص من الخرافات البالية التي حاول المستبدون لعقودٍ استخدامها لإيهامنا بأنّنا عاجزون، وانتفض العالم الحر واصطف في نصرٍ آخر إلى جانب الحق مطالبًا بإيقاف الإبادة الجماعية في غزّة فورًا، ومؤّطرًا الاحتلال وداعميه في إطارهم الصحيح، كمجرمين وأعداء للإنسانية.

كما أعاد صمود غزّة شحن حركات المقاطعة حول العالم كقوة مؤثرة من أجل التغيير، قوة تواجه الكيانات المتواطئة مع الاحتلال والداعمة لجرائمه، وزاد الوعي بأهمية المقاطعة كأداة للمحاسبة، وانخراط الأفراد والمؤسسات في جهود المقاطعة، التي أوجعت المجرمين ماليًا على الرغم من كلّ الأكاذيب التي يحاول المثبطون ترويجها ضدّ المقاطعة. وفي نصرٍ آخر، فقد بدأت الحكومات والشركات تستشعر على نحوٍ متزايدٍ، ضغطَ المقاطعة، لإيقاف انتهاكاتها للقانون الدولي والمبادئ الإنسانية.

لا نستطيع أن نطالب الغزّيين بتقديم المزيد، فالنصر لا يقع على عاتقهم وحدهم، بل يجب أن يكون نتيجة لحركة عالمية تلهب مشاعل المعارضة والاحتجاج

والانتصار الفلسطيني كان أيضًا انتصاراً للوعي وكشفًا الحقائق. حيث برز الشباب في جميع أنحاء العالم في طليعة هذا الحراك، وبدؤوا في إعادة فهم التاريخ والحقيقة حول الإجرام الذي يمارسه المجتمع الدولي منذ أكثر من 75 عام بحق الفلسطينيين، وبدؤوا برفض الوضع الراهن، حيث شهدنا تشكّل نوى جبهات وحراكات شبابية ناشئة مكرّسة للعدالة ومقاومة الاحتلال.

لكن النصر لا يخلو من التحدّيات، وسيبقى منقوصًا حتى يتوقف العدوان وينسحب المحتل ويفك الحصار، ويحصل الفلسطينيون على فرصة للتعافي والحزن على من وما فقدوا، فرصةً للحياة الكريمة الحرّة التي يستحقونها أكثر من أيّ إنسان على وجه هذه الأرض.

إنّ إعادة إعمار غزّة ستكون مهمة ضخمة، تتطلّب دعم والتزام جميع الأحرار حول العالم، مع تحميل الاحتلال وحلفائه الأشرار مسؤولية إعمار ما دمروه وتعويض الضحايا على الرغم من أنّ لا شيء يمكن أن يعوّض الأرواح التي فقدت.

إنّ الجراح التي خلّفها الاحتلال والحصار لن تلتئم بين عشية وضحاها، وسوف تظلّ آثار الحرب محسوسةً للأجيال القادمة، إلّا أنّنا لا نستطيع إلّا أن نحسن الظن بالله في مثل هذه الشدّة، ونتذكر قوله تعالى "ولا تيأسوا من رَوْحِ الله"، ويجب على العالم ألا ينسى معاناة غزّة وانتصاراتها، وهي تنهض كالعنقاء من بين الرماد لتحقيق العدالة والحرية وإعادة تعريف معاني الحرية والكرامة.

محمد صالح
محمد صالح
مستشار وخبير في التنمية الدولية والتطوير المؤسسي، تركز جهوده وخبراته على إصلاح القطاع العام وتنمية المجتمعات المحلية. أدار وعمل في العديد من المشاريع المموّلة من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية والاتحاد الأوروبي في مجالات التنمية وسيادة القانون.