اليأس طوقا للنجاة
سعيد ناشيد
معظم المعتقلات السرّية في مختلف تجارب العالم وُجدت لغاية أن يموت فيها السجناء ببطءٍ شديد. غير أنّ السجانين غالبا ما يقترفون خطأً جسيماً عندما يعتقدون بأنّ الحرمان واليأس سيعجلان بالنهاية. لو تعلّموا شيئاً من الفلسفة العملية، لأدركوا أنّ النتائج ستكون عكسية.
حرمان السجين من مقومات البقاء على قيد الحياة يحرّره من الملل والخوف والتذمر، ويجعل تركيزه الذهني منصبًّا على المقاومة لأجل البقاء، مقاومة الجوع، البرد، الحشرات السامة، إلخ.
كان أحد السجناء في مقبرة تحت الأرض يحصل على وجبة واحدة وشحيحة في اليوم، ولأجل تسكين ألم الجوع كان يتخيّل نفسه يلتهم رغيف الإسفنج الذي كان يحبّه في طفولته، إلى أن يشعر برائحة الزيت المقلي تملأ زنزانته، ومذاق رغيف الإسفنج يملأ فمه، ثم يدخل في نوم كالسبات لأجل أن يخفّض من استهلاك طاقته. ولقد أخبرني بنفسه عن صديقه الذي طوَّر جهازه الهضمي مهارة إخراج الطعام من المعدة وإعادة مضغه كما تفعل بعض المواشي.
افعل ما هو مطلوب منك، ودع مصادفات الحياة للحياة، دون أن تتعلّق بأي شيء منها
ليس هناك ما يحفّز الإنسان على البقاء أكثر من الشعور بالخطر. بل حتى الإنسان المقبل على الانتحار، فإنّه ما أن يجد نفسه تحت تهديد خارجي حتى يتحوّل إلى التفكير في النجاة.
غير أنّ الدافع الأول إلى الانتحار لا يتعلّق باليأس، بل بخيبة الأمل. ما يعني أنّ البذرة الأولى للانتحار مبثوثة في الأمل نفسه، أمّا اليأس، حين لا يتأخر، فإنّه سرعان ما يحرّرنا من الأمل، وبالتالي من خيبة الأمل.
كلّ حكايات السجناء الذين انتحروا أو فقدوا عقولهم، كانوا ضحايا أمل معلّق كالدخان، كأن تقتحم الجماهير الثائرة أسوار السجن على طريقة الباستيل الفرنسي، أو يأتي العفو الشامل في يوم من أيام العيد، أو تمتد يد الله في ساعة فرج.
معظم الذين نجوا من جحيم المعتقلات السرّية نجوا لأنهم تصالحوا مع قدرهم منذ اللحظة الأولى، لم يكونوا ينتظرون أيّ شيء خلف الأبواب الموصدة بأقفال اليأس الحديدية. ولقد أقاموا على أرضية اليأس الثابتة موائد من الفرح الصغير.
حين لا تتعلّق بالنجاة تكبر فرصتك في النجاة، وحين يدعوك الوضع إلى اليأس، يصبح اليأس طوقاً للنجاة
كان البعض يلعب طوال الوقت بالوقت، ويهيم بخياله في عوالم الخيال. عبر الجدران السميكة للزنازين الانفرادية، كانوا يتبادلون الزيارات في الخيال، يدعو أحدهم الآخرين إلى وليمة في الخيال، ثم يلعبون بالأقوال والأرقام. صباح كلّ يوم يتنادون قبل أن يحتفلوا، بأنّهم لم ينقصوا واحدا. يعدّون كلّ يوم انتصاراً على الموت. غير أنّ الموت لم يخطئ آخرين، منهم اختاروا العزلة متعلقين بالأمل، منهم من فقد حياته، ومنهم من فقد عقله. وفي النهاية، فإنّ أكثر الناجين هم الذين تقبّلوا اليأس النهائي، وقرّروا أن يلعبوا إلى النهاية.
أحدهم اصطلحوا عليه لقب "الغراب الأشقر"، فقد كان أكثرهم يأساً، وأكثرهم تقبّلا لفكرة أنّهم هناك لكي يموتوا بعد أن دُفنوا أحياء، لكنّه للسبب نفسه كان أكثرهم انخراطاً في اللعب.
بعد عقدين من الزمن كان ذلك "الغراب الأشقر" واحداً من القليلين الناجين من الجحيم، بل كان أفضلهم صحة وقواماً. كان يأسه طوق نجاته.
وهكذا أقول لك: إذا وقعتَ في بئر لا يمكنك الخروج منها مهما حاولتَ، فليكن هدفك البقاء على قيد الحياة أطول مدّة ممكنة، قد يعثر عليك عابر سبيل مثلا، غير أنك لا ينبغي أن تتعلّق بهذا الأمل لئلا تستنزف نفسك وتهلك قبل أوانك، فكلّ ما تطلبه منك الحياة في تلك الأحوال هو البقاء على قيد الحياة أطول مدة ممكنة. افعل ما هو مطلوب منك، ودع مصادفات الحياة للحياة، دون أن تتعلّق بأي شيء منها.
حين لا تتعلّق بالنجاة تكبر فرصتك في النجاة، وحين يدعوك الوضع إلى اليأس، يصبح اليأس طوقاً للنجاة.
فلا تنس!