الهروب من النسيان
بين معاني الأزلية والأبدية يضيع الإنسان بحكم أنه ليس سوى مخلوق فانٍ يتجسد فيه كل ما يخالف البقاء الدائم، فالحياة بالنسبة للبشر قنطرة عليها المسير طويل على خشب متصدع قد يتعثر بها ابن آدم في أية لحظة، فيصبح في خبر كان لينتقل إلى دار البقاء الفعلية. كل هذا يدور داخل حلقة الزمن الذي يمر بسرعة الضوء، فتتغير الأمكنة وترحل نفوس وتولد أخرى؛ بعضها لا يُكتب لها أن تعْرف، وبعضها الآخر يأبى الرحيل دون ترك بصمة.
لو نظرنا من حولنا، لوجدنا أن البعض منا يسعى إلى ما يبقيه في الدنيا حيا في الذاكرة حتى بعد رحيله، وهناك من يسعى في الدنيا ليعيش قبل رحيله غير مكترث بذكراه بعد ذلك. أي الطرفين على حق؟ قد لا يوجد جواب شاف لهكذا سؤال، لكن المشترك بين الطرفين أن الرحيل مصير حتمي لا مناص منه.
لكن أَخَطَر ببالكم أن بين الاثنين فئة لم تسعَ لبقاء أثرها بعد الممات كما لم تأخذ من دنياها حصتها من الرفاه، لكن وبطريقة ما، وجد البقاء النسبي طريقه إليها؟ يذكرني هذا التساؤل بمعارض المصورين الفوتوغرافيين؛ فكم من صورة عرضوها في تظاهراتهم الفنية لأشخاص لا نعرف لهم اسما ولا أصلا؛ بضع سحنات قد نتعرف عليها وملامح قد تذكرنا بطبيعتها الفانية، لكن لو تمعنا في النظر، فَلَنَجدَنَّ أن هؤلاء الناس ربما لم يعلموا بأن صورهم ستعرض يوما أمام أعين مندهشة وفاحصة، لكن أوتعرفون أنهم محظوظون؟ فلو بعد مماتهم، ستبقى صورهم لزمن تعريفا عن ذواتهم، وقد يمر ناظر أو اثنان يترحمان عليهم، يتحدثون عنهم وكأنهم عرفوهم ويتذكرونهم. أما لو كانت الصورة عاكسة لمهارة المصور، فقد تصبح شخصية الصورة في الذاكرة العالمية ودائرة الشهرة غيابيا وهي لا تدري.
بعض الأسماء كتب لها البقاء طويلاً على امتداد الزمن، وبعضها الآخر إما فشلت في رشوة التاريخ أو أنها فضلت الرحيل بصمت وهدوء كما أتت إلى الدنيا زاهدة بكل ما فيها
لكن بقاء الصور والبورتريهات نسبي في حد ذاته مثله مثل البشر؛ فقد ينشب حريق في المعرض، قد تضيع الصور عن قصد، قد تسرق أو تتلف بعد أن يخفت بريق شهرة مصورها، أو قد تصبح قطعا أخرى مخزنة في السراديب القديمة للمعارض، كأنها شيء لم يكن. لكن قد تمضي الأيام ويعود الباحثون عن الماضي، فينبشون عن ذكرى فنية من ما مضى، وقد تقع أيديهم على صورة من تلك الصور، فيعاد عرضها. المستنتجات اثنتان، فللصور التي يُتَوخَّى منها البقاء دائرة حياة أيضا قد تتجدد مثل البشر، لكن بطريقة مختلفة، كما أنه لها نصيب من الفناء كغيرها من الكيانات والكائنات في الأرض.
هذه حقيقة معروفة وبديهية لا تستوجب نقاشا ولا تقبل خلافا. إلا أنه وبالرغم من هذا، ما زالت أقلام الكتاب تبحث عن السمو في البقاء بعد ذبلان أجساد أصحابها وتواريها في اللحد؛ وفرشاة الرسامين تسعى للخلود ولو بنسبيته؛ وأوتار العازفين تتمايل لتسَجَّل على الأسطوانات علها تصل يوما إلى كل الآذان الصاغية. هذه سلسلة من المحاولات والمناورات البشرية لتجنب النسيان بعد الرحيل؛ بعض هذه المحاولات يرى نور النجاح، فتصلنا مثلا لوحة العشاء الأخير لدافينشي بعد قرون وبرديات الفراعنة بعد دهر، وبعضها يواجه خيبة الأمل، فيعود أصحابها إلى حفر النسيان المختبئة بين ثغرات خط الزمكان.
وبيت القصيد أن بعض الأسماء كتب لها البقاء طويلا على امتداد الزمن، وبعضها الآخر إما فشلت في رشوة التاريخ أو أنها فضلت الرحيل بصمت وهدوء كما أتت إلى الدنيا زاهدة بكل ما فيها.
قد تراود أحدكم هذه الفكرة أو جزء منها، وهو يتمشى بين أزقة المدن والبلدات، فإذا بالعين تحط على اسم شارع أو زقاق سمي تيمنا بفلان أو فلانة، فيبث الاسم دوامة من الفضول، فتراك تبحث عن هوية هذا الشخص الذي كلل اسمه لافتة هذا الشارع أو ذاك. ويا سعيد الحظ الذي يُكتشف اسمه، وهو الذي خدم البلاد وحقق البطولات وعاد بعظيم الفائدة في زمن ومكان معينين، حتى وصل اسمه إلى عابر سبيل أو سائح فضولي سينقل اسمه إلى شفاه من لا يعرفونه، فيمدحونه ويذكرونه بالخير ويدعون له في غيابه حيث هو بأمس الحاجة إلى ذلك.
الخلود شبه سراب، لكن لا مانع ولا حرج في السعي إلى ترك ذكرى نافعة بعد الرحيل.