مليلية... متحف الذكريات

03 مايو 2020
+ الخط -
لطالما تساءلت أوليس من غير العادل أن يمنح مواطن من دولة من الشمال حق السفر إلى أي مكان أراده دون الحاجة إلى تأشيرة أو فيزا، في حين يتحتم على مواطن آخر من دولة من الجنوب أن يحصل على تأشيرة، وإلا فَليُودِّع حلم السفر..

نعم.. الحقيقة أن جوازات السفر ثقلها في الميزان يختلف بالرغم من أنها من نفس الحجم، تحمل ذات المعلومات، وقد تكون عدد صفحاتها متطابقة حتى، بالرغم من اختلاف البلد والجنسية. للسفر أحيانا قد لا تحتاج إلى تأشيرة ولا جواز سفر؛ يكفي أن تفتح شاشة التلفزيون أو هاتفك أو حاسوبك لترافق حازم أبو وطفة في رحلاته في برنامج "المسافر" على الجزيرة، أو تنضم إلى الشريف الإدريسي في وصفه لأمصار الدنيا في "نزهة المشتاق واختراق الآفاق". المقصود هنا جعل العقل طائرة لا تحدها تخوم جغرافية ولا غيرها، وبفضلها لن تحط في أي مطار، لن تحمل متاعا ولا حقائب، لن تحتاج إلى جواز ولا ورقة ثبوتية؛ إنها الرحلة التي تكون على متنها أنت الربان لتصل متى ما تريد وتغادر متى ما ترغب في ذلك. لكن لو أتيت بفرصة السفر فعلا، فلا تحرم روحك من تجربة كهذه.

مثل كثيرين، جواز سفري يمنحني امتياز السفر لأماكن محدودة، منها أماكن كانت ذات يوم جزءا من موطني، لكنها غادرت، إذ انتزعت من أحضانه منذ قرون، وهذا أمر منطبق على المدينة الغالية مليلية. جمعتني لقاءات شتوية كثيرة بها، وفي كل مرة أزورها، أعبر الحدود وأنا متمسكة بأصول تمليلت وممسكة بجوازي سفري.


تصوروا أن أربعة معابر تفصل بين عالمين كانا يوما توأما، وأصبحا بين عشية وضحاها كيانين منفصلين. بمجرد أن تغادر تراب إقليم الناظور عبر معبر ماريواري، أو بني نصار، أو باريو تشينو، أو فرخانة، تكتشف ملامح مجتمع مختلف شبيه بل متطابق مع كل ما هو أوروبي، لكن لو نظرت يمنة ويسرة، سترى نسائم الحضارة المغربية تختبئ بين الأزقة وإن ظهرت، فإن مظهرها يكون خجولاً.

اليوم، أرصد كلامي هذا لزيارة مميزة جداً إلى مريتش كما يسميها أهل الناظور؛ زيارة جعلت قلبي يخفق ذهولا بين ضلوعي، ذلك أنني أمضيت دهرا من الزمن قرب أجمل المدن، لكن لم أفكر يوما في استكشافها. على أي حال، قرأت ونقبت وبحثت وتفرجت وجمعت ما وددته من معلومات، لتثوي في النهاية فكرة زيارة تمليلت العتيقة في عقلي. في موطني، كل حاضرة متمدنة هي نتاج مدينة عتيقة، فلطنجة مدينتها القديمة، ولفاس والرباط وتطوان المثل، وهذا ينطبق على مليلية. رحلتي هذه امتدت لساعات طوال في شوارع المدينة الشهباء، بالرغم من أن استعمال هذه الصفة قد يحاسبني عليه أهل حلب الغوالي، لكن كل شيء يحلو بالمشاركة، أوليس كذلك؟

انطلقت رحلتي في اتجاه مليلية لا بييخا من بلازا إسبانيا، وهي من جملة الساحات المعروفة والمهمة بين أهالي المدينة، وعلى بعد مسافة قصيرة، يقع أول الحصون التي شيدها الإسبان الذين احتلوا مليلية بعد سقوط غرناطة واتحاد البرتغال وإسبانيا. وقد أتيت على ذكر أن اسم الحصن هو مليلية لا بييخا ومقابلها حرفيا بالعربية مليلية القديمة.

قبل ولوج حصن لا بييخا أو مليلية القديمة، لن يخفى على ناظر الرائي مجسم سفينة في بلازا ذي لوس بيسكاذوريس على بعد أمتار من ميناء مليلية الذي تنطلق منه عشرات البواخر السياحية وعلى متنها عدد من الجالية المغربية المقيمة في الخارج، وإن قطعت مسافة متر، فاثنين وثلاثة وهكذا دواليك، ستصل إلى سلالم تصعد درجاتها لتدلف عبر تونيل ذي لا مارينا إلى قلب مليلية القديمة. وعلى غراري، ستجد نفسك أنك، منذ ثانيتين فقط، كنت في مليلية القرن الحادي والعشرين، لتدرك أنك ولجت للتو إلى مليلية القرن الخامس عشر. نعم، هنا داخل هذا الحصن تقبع ذكريات ما بعد مقدم دوق سيدونيا بأكثر من قرنين وسيطرته على جزء جغرافي مهم من المنطقة بأمر من الملكة إيزابيلا والملك فرديناند. قبل وصولي إلى ساحة شبه صغيرة من هذا الصرح، مررت عبر تونيل ذي لا مارينا باحثة عن صوت أو ربما همس من عاشوا في هذا المكان، وحتى بعد مروي هذا، بقي عقلي مصرّاً على أن الجدران تكتم أسراراً تُريد أن تبوح لي بها، لكن أأستطيع فهم لغتها؟

صاحبني سؤالي وأنا أخطو نحو المتاحف التي تقبع داخل أسوار لا بييخا. نعم هنا، وجدت أسرار أهل هذا الصرح مترجمة بلغتي، وأعني هنا بلغة لسانية يفهمها الإنسان. في طابقين وزعت متاحف فرعية تحت مسمى متاحف مليلية للتاريخ والآثار والإثنوغرافيا. شد اهتمامي متحف الدور السفلي، الذي ركز في كل زاوية منه على استعراض ثقافة الأمازيغ واليهود السفارديين في المنطقة. انتقلت من زاوية لأخرى مستمتعة بما يعرض فيه من مقتنيات قديمة، حلي ومجوهرات أمازيغية، كتب دينية بالعبرية، أردية رجالات دين يهود، مخطوطات عتيقة، أسلحة وأدوات بدائية، قطع نقدية من حقب زمنية، ومواد شتى محفوظة حفظاً جيداً؛ لكن أؤثر الحديث عن انتباهي إلى أن هذا المتحف مؤسس فيما يشبه نفقا متفرعا ومرمما ترميما لا ينكر إتقانه. استوقفتني شاشات ذكية توفر للزوار معلومات عن مليلية والثقافة الأمازيغية وغيرها بلغات منها الفرنسية والعربية والإنكليزية. من نافل القول إنني لم أشأ مبارحة المكان، لكني عرجت على متحف الدور العلوي الذي لا يختلف عن نظيره السفلي في غنى محتوياته، إلا أنه، علاوة على هذا، يغطي جزءاً لا يستهان به من تاريخ تمليلت من مرحلة ما قبل التاريخ إلى روسادير الفينيقية البونيقية، ثم تمليلت الإسلامية إلى حدود مليلية المحتلة منذ القرن الـ16.

أدرك أن زيارة واحدة إلى مليلية لا بييخا لا تكفي ولا تشفي. لكن ما أستطيع الجزم به هو أملي الدائم في إيجاد أثر أو لمحة إسلامية أو أمازيغية أو عربية عمرانية، ما عدا مسجد الراشترو، تعود لغابر الزمان غير تلك المعروضات والمقتنيات الموجودة في متاحف تمليلت.

طريف أنني على وشك إنهاء كلامي، لكن سأعود بكم إلى بداية النص، وبالتحديد إلى استخدام صفة الشهباء، ولا يخفى عنكم أن له صلة باللون الأبيض. ربما قد لاحظتم استخدامي تسمية تمليلت، وهذا راجع إلى أنه الاسم الأمازيغي للمدينة، ومعناها بالعربية "البيضاء"، ذلك أن الحجر الجيري كان منتشراً بها في فترة زمنية محددة.
دلالات
CF86EF5A-21B4-4C0B-99D2-419E69E3D260
يسرى العيادي

مدونة ومترجمة حاصلة على شهادة البكالوريوس في الأدب الإنكليزي والماجستير في الترجمة.

مدونات أخرى