العنف ضد النساء.. بين اللامبالاة والاستخفاف والتكذيب
لا بدّ من الإقرار، بعد كلّ هذه العقود من وضع السياسات والاستراتيجيات للحدّ من ظاهرة العنف في مجتمعاتنا المعاصرة، بأنّ العنف المسلّط على الشابّات والنساء أضحى أكثر رسوخا في الحياة اليومية. ولا نتوقّع أن يتمّ الحدّ من هذه الظاهرة الخطيرة في السنوات القادمة، ذلك أنّ كلّ التقارير تشير إلى ارتفاع منسوب العنف الذي يستهدف الشابّات والنساء يوما بعد آخر حتى باتت 'الذاكرة النسائية' تعجّ بقصص وروايات وشهادات تصدم كلّ من أبدت فضولا أو تعاطفا أو اهتماما بمشاكل الأخريات.
ويزداد الأمر عسرا بالنسبة إلى الناشطات النسويّات والحقوقيات المتطوّعات لمرافقة المعنّفات نفسيّا وقانونيا ورعائياً والمُكلّفات بتلبية احتياجاتهن، ذلك أنّه ليس من السهل الإصغاء إلى الضحية وهي تسرد أدقّ التفاصيل حول ما حدث لها فتصف أساليب الإذلال الجنسي أو أشكال التنكيل، أو تُردّد كلمات التبخيس والتعيير والشتم أو تجهش بالبكاء المشفوع بالأنين.
كما أنّه ليس بمقدور المكلّفة بالاستماع وكتابة التقارير أن تُعاين مواضع استباحة الجسد الأنثوي وآثار العنف المادي والتشفيّ. فهل يتسنّى لها بعد كلّ ذلك، أن تبقى هادئة ومسيطرة على الموقف ومتحكّمة في مشاعرها ودموعها حتى تقيم الدليل على ''مهنيتها'' و''حياديتها'' و''موضوعياتها'' وتثبت مدى نجاحها في مواجهة الصور النمطية وتخلّصها من ترسانة الصفات التي تنسبها الثقافة للنساء كاللين ورقّة المشاعر والضعف والعاطفية وغيرها؟
فعندما يتعلّق الأمر بالوقوف أمام الضحية وجها لوجه، فإنّك لا تملك إلا أن تكون إنساناً يلبّي نداء استغاثة الموجوعة علّها تستعيد ثقتها في نفسها وتولد من جديد فتتعلّق بالحياة وبالأمل.
تبدأ رحلة المرافقة بالاتصال بالجهات المسؤولة ومعها تتكشف النساء أنّهنّ في الغالب، غير مُرحّب بهن، إذ قلّما يُبدي رجال الشرطة اهتماماً بحالات العنف الممارس على النساء، بل إنّ منهم من يتلكّأ فيرفض فتح المحضر، ومنهم من يتعمّد حجب المعلومات فلا يُبيّن للمعتدى عليها الإجراءات الواجب اتباعها فيفوّت عليها فرصة التقاضي، ومنهم من يصطفّ إلى جانب الزوج أو ''الوليّ" ليتولّى بنفسه تلقين ''زريعة إبليس'' درسا في الامتثال لقوانين المجتمع والعشيرة والجماعة.
لا تؤخذ سردية 'المعنّفة' على محمل الجدّ لأنّ المخيال الذكوري يبقى شديد التأثر بالرواية التوراتية لقصّة الخلق و''طرد آدم من الجنّة على يد امرأة'
ولا تسل عن علامات اللامبالاة والاستخفاف أو التبرّم أو السخرية عند الاستماع إلى الضحية. فهي مُدانة مسبقا وروايتها مشكوك فيها أو مبالغ فيها، ومهما فصلت القول فإنّها كاذبة ومُدعية وخطابها متناقض وروايتها غير مقنعة ومهما بكت فإنّها مذنبة ودموعها "دموع التماسيح''، وهي مخادعة بالفطرة...
ولا يتوقّف الأمر عند "شيطنة الضحية''، إذ يتّضح انحياز بعض القضاة والأطباء وغيرهم من الموظفين لصالح الجناة بكلّ جلاء. إنّهم ببساطة لا يصدقون النساء ولا يكترثون بآلامهن ويوحدون مواقفهم. ومن يلوم الرجال على ''التضامن الذكوري'' الذي يُطبّق تلقائياً في كلّ المؤسسات وأماكن العمل وغيرها. وما دامت النسويات يتحدثن عن الأخاوتية sisterhood والتضامن النسويّ، فلا بأس أن يتكتّل الرجال هم أيضاً، من أجل حماية مصالحهم.
لا تؤخذ سردية المعنّفة على محمل الجدّ، لأنّ المخيال الذكوري يبقى شديد التأثر بالرواية التوراتية لقصّة الخلق و''طرد آدم من الجنّة على يد امرأة"، وبقصّة يوسف وامرأة العزيز التي كادت له وأغوته، وبمجموعة من الأمثال والحكم والحكايات الشعبية التي تحذّر الرجل من كيد النساء وألاعيبهن وثرثرتهن وفتنتهن، "والفتنة أشدّ من القتل".
ولذا لا يملك الفاعلون في مختلف المؤسسات التي تتعامل معها "الضحية" إلا أن ينصبوا محاكم التفتيش، وأن يفرضوا معايير التعامل مع النساء التي تتشابك مع محددات الطبقة والعرق والمستوى التعليمي والثقافي ودرجة الوعي والسنّ. فويل للشابّات اللواتي يخرجن في الليل، ذلك أنّ أزمنة النساء مختلفة عن أزمنة الرجال، وويل لمن يغادرن بيوتهن في أبهى حلّة ذلك أنّ الاهتمام بالهيئة وجمالية تناسق الألوان يغدو حجّة على "الانحلال" و"الفسوق" و...
إنّ المعنّفة ليست ضحيّة رجل بقدر ما هي ضحيّة أنظمة متشابكة وصلبة "كالبنيان المرصوص".