العم محمد يوسف فاكهة السينما المصرية (4)

08 اغسطس 2021
+ الخط -

في التسعينيات وبعد أن تجاوز الخامسة والستين من عمره، دخل محمد يوسف مرحلة جديدة من النجاح حين تمت إعادة اكتشافه سينمائياً على يد المخرج الكبير شريف عرفة الذي كان قد تعرف عليه عن طريق صديقه الممثل القدير جمال إسماعيل، وعشقه شريف عرفة، فأصبح أساسياً في كل أفلامه بدءاً من فيلم (سمع هس) الذي كان بداية تألقه الجديد في دور محام فاشل نصاب رسمه أستاذنا ماهر عواد ببراعة، ليتألق محمد يوسف في كل مشاهده وخصوصاً في ذلك المشهد الذي يجمع بينه وبين حسن كامي أو المطرب الغندور، حين يقرر خيانة موكلَيه حمص وحلاوة، "عشان يكون عندي مكتب في وسط البلد أخاف عليه"، وعندما يمل حسن كامي (الغندور) من طلباته المتكررة ورفضه تسليم المستند الذي يخدم حمص وحلاوة في القضية، يقوم بإغراقه في مياه حمام السباحة قائلا له "الله وكيلك" فيصرخ "ونعم بالله" مكتفيا بهذا القدر من الطمع، ثم يتألق محمد يوسف في مشهد المحكمة وهو يراوغ متهرباً من الدخول في القضية بترديد كلام إنشائي من نوعية "نحن نعيش في زمن يلعب فيه الكلب الطاولة ويشرب فيه الفيل القهوة".

في فيلمه التالي (يا مهلبية يا) يسند شريف عرفة وماهر عواد للعم محمد يوسف دوراً يوظف خبراته المسرحية الطويلة، هو دور غفير الاستديو الذي تحول إلى مخزن دقيق، والذي يحكي مع بداية الفيلم تاريخ الاستديو المرتبط بمحاولة اغتيال الملك فاروق والتي تصبح أساساً تدور حوله أحداث الفيلم، وحين قام المخرج سعيد حامد بعمل أول أفلامه (الحب في الثلاجة) بعد أن ظل لفترة طويلة يعمل مساعدا أول لشريف عرفة، قام بإسناد دور أكبر لمحمد يوسف، هو دور الزوج المخدوع للراقصة اللعوب، وبرغم تقليدية الشخصية، إلا أن محمد يوسف أدى الدور ببراعة لافتا إليه المزيد من الانتباه، لكن الفشل التجاري الذريع الذي حققه الفيلم المظلوم يتسبب من جديد في حصر محمد يوسف في الأدوار الصغيرة التي كان أبرزها دوره في فيلم (الإرهاب والكباب) في شخصية الموظف الغلبان الذي يمشي جنب الحيط ويتوسل الى زميلته إنعام سالوسة "اهدي يا مدام" لكي لا تتفاقم الأمور بسبب عصبيتها، ليتواصل تقديمه لأدوار صغيرة متميزة في أفلام مهمة مثل (هيستيريا ـ قشر البندق ـ النوم في العسل ـ عبود على الحدود ـ الناظر ـ اضحك الصورة تطلع حلوة ـ الساحر).

بعد أن بدأ المخرج سعيد حامد في تقديم أفلام تجارية، قرر أن يستعين بمحمد يوسف الذي كان يحبه جداً ويدرك إمكانياته الفنية، فأعطاه مساحات أكبر على الشاشة بدءاً من فيلم (صعيدي في الجامعة الأمريكية) الذي لعب فيه دور (الدهشوري خلف) والد بطل الفيلم محمد هنيدي، ثم فيلم (رشة جريئة) ـ مع ماهر عواد من جديد ـ حيث لعب دور (عم سعد) الجار "الحِشري" الذي يتدخل طول الوقت في حياة البطل الذي يعشق التمثيل، ودور ساعي المحطة التلفزيونية في فيلم (جاءنا البيان التالي)، ثم جاء الدور الأكبر مساحة وتأثيراً في فيلم (صاحب صاحبه) ـ مع ماهر عواد أيضاً ـ  والذي لعب فيه دور الجد المشاغب (سردينة) بشكل جعله أكثر ممثلي الفيلم تألقاً.

بعد نجاحه السينمائي المتواصل، رفض محمد يوسف العمل في إعادة إنتاج برنامج (ساعة لقلبك) في قالب تلفزيوني، لأن المسؤولين عن البرنامج رفضوا وجود جمهور في الاستديو، كما كان يحدث خلال تسجيل البرنامج الإذاعي، ولم يستجيبوا لنصائحه هو وزملائه بأن عدم وجود الجمهور سيؤدي إلى فشل البرنامج، وهو ما حدث بالفعل.

كان عم محمد يعيش حالة فرحة حقيقية بالتكريمين اللذين حصل عليهما، جعلتني أشعر كم كان متعطشاً للتقدير بعد كل هذا العمر الذي قضاه في إسعاد الناس بتفان وإخلاص دون أن يقوم بتكريمه أحد

في تلك الفترة أيضاً بدأ مخرجو المسلسلات التلفزيونية يلتفتون إلى موهبة محمد يوسف ويعرضون عليه بعض الأدوار الصغيرة، مما كان يثير ضيقه الشديد، خصوصاً حين اكتشف أن أجره في التلفزيون لم يكن يليق بمشواره الطويل، حيث كان يحصل على ستمائة جنيه فقط في الحلقة، في الوقت الذي كان من هم في عمر أحفاده يحصلون على أجور أكبر، ولذلك كان يعتذر كثيراً، خصوصاً بعد أن تعرض للنصب من بعض المنتجين الذين استغلوا نظام (المنتج المنفذ) وعاثوا في البلاتوهات فساداً، لدرجة أنه اعتذر عن الاشتراك في مسلسل (أوبرا عايدة)، وحين اتصل به يحيى الفخراني وقال له إنه لا يتصور أحداً آخر يقوم بالدور غيره، قال محمد يوسف إنه سيقبل الدور تقديراً ليحيى، لكنه يجد إحراجاً من تواضع الأجر المعروض عليه، فوعده الفخراني بأن يتغير الأجر المعروض عليه، لكنه بعد أن بدأ التصوير فوجئ بنفس الأجر القديم، فلم يثر أزمة لأنه استمتع بالدور جداً، ووجد في كواليس العمل انضباطاً والتزاماً بالمواعيد لم يجده في مسلسلات سابقة شارك فيها وكانت تجربته فيها مريرة، مع أنه كان يرفض الجمع بين عملين في نفس الوقت.

حين بدأ الصحافيون يهتمون بإجراء حوارات مع محمد يوسف عقب نجاحه الاستثنائي وبعد سنوات طويلة من التجاهل، قالت له جيهان الشعراوي في حوار أجرته لمجلة (نصف الدنيا) بتاريخ 25 مارس/ آذار 2001 إنها شعرت في اتصالها التليفوني معه بأن لديه تحفظا شديدا تجاه الصحافة والصحافيين فما سبب ذلك؟ فأجابها بصراحة ودون حسابات: "شعورك حقيقي، ولا أخفي أن لي موقفا من الصحافة رغم أن علاقاتي مع الصحافيين طيبة، لكن ثأري مع الصحافة لا أستطيع أن أنساه عندما أسهمت في تضليل الشعب والتغني بأمجاد قوتنا العسكرية في وقت كانت هزيمتنا فيه محققة وكان ذلك قبل نكسة 1967، واستمر الإعلام والصحافة في مسلسل الكذب على الناس حتى آخر لحظة لدرجة ادعاء أننا أسقطنا عشرات الطائرات للعدو في الوقت الذي ضرب فيه الطيران المصري قبل أن يتحرك، واستمرت الكذبة حتى خرج عبد الناصر يعلن هزيمتنا النكراء ويعلن مسؤوليته عن ذلك وكانت خيبة أمل كبيرة للجميع، وكانت الصحف تجعلنا نشعر بأننا قادرون على تحطيم العالم كله إذا وقف أمامنا. كل هذا أثّر في الناس بعمق لكنه أثّر فيّ بشكل أكبر من أي أحد، لأنني ظللت ثلاثة أشهر قبل النكسة أكتب يوميا فقرة سياسية من خمس دقائق في برنامج (ساعة لقلبك) وكنت أحصل على مادتي الأساسية من الأخبار التي تنشرها الصحف وأكتب عنها مواقف كوميدية تذاع بالبرنامج، وكان هذا يكلفني جهدا شديدا فقد كنت أنتظر صدور الصحف المسائية وأنتظر الطبعة الأولى من الصحف الصباحية في الخامسة فجرا حتى أتمكن من قراءتها واختيار الخبر الذي يصلح لكتابة موقف حوله وبسرعة بحيث أتمكن من الانتهاء من كتابته قبل الظهر ليتم تسجيله وإذاعته في مساء اليوم نفسه. وبعد كل هذا الجهد والتعب اكتشفت أن كل ما قالته الصحف كان كذبا في الوقت الذي كنا نصدقها بدون نقاش، وكان ما يقوله عبد الناصر تصدق عليه ونصدقه بلا شك، وفجأة وجدنا أنفسنا في موقف سيئ فلم يكن مني إلا أن أصبت بأزمة ثقة أبعدتني عن العمل لفترة طويلة، وتوقفت عن تقديم الفقرة السياسية في ساعة لقلبك برغم نجاحها".

وحين سأله الصحافي حسام عبد البصير في صحيفة (الوفد): "سيارتك موديل 73 وتعاني من نفس آلام مفاصلك حينما تصعد السلم وظروفك المادية مستورة بالكاد، ألا ترى أنك أخطأت الطريق"، أجابه بنفس الصراحة قائلاً: "بعد أن وصلت للسبعين من عمري يصبح السير في طريق واحد، حيث لا يمكن العودة ثم ما الذي يضير في استخدام سيارة قديمة، الحياة مليئة بأناس كثيرين منحوا مجتمعاتهم أكثر مما أخذوا ويسيرون على أقدامهم. لماذا نحن الفنانين أكثر شكوى من غيرنا، بين فئات المجتمع التي تعمل بلا شكوى".

يشاء الله أن تتدهور صحة العم محمد يوسف في الوقت الذي بدأت تُكتب فيه له الأدوار خصيصاً، ليعود ثانية إلى الأدوار الصغيرة بعد أن كان قد بدأ يغادرها إلى مرحلة ممثل الأدوار المساعدة، ثم يتوفاه الله قبل أن يكمل عشر سنوات من بدء تحققه الفني، لكنه رحل بعد أن حفر اسمه في وجدان الملايين إلى جوار نخبة من أجمل "كادحي السينما المصرية" أمثال رياض القصبجي وعلي الشريف ونعيمة الصغير وحسن أتلة ومحمد شوقي ووداد حمدي وعبد الغني النجدي ونبيلة السيد وسيف الله مختار وابراهيم سعفان وغيرهم من الممثلين المتميزين الذين لم ينالوا ما كان يناله أبطال الأفلام من أجر عالٍ واحتفاء إعلامي، لكن الأيام أنصفتهم، فجعلت المشاهد التي شاركوا فيها تبقى في وجدان الناس في أحيان كثيرة، في حين ينسى الناس كثيرا من أبطال تلك الأفلام.

ربما كان عم محمد أسعد هؤلاء حظا، حيث تم تكريمه قبل رحيله بأشهر مع النخبة المتميزة العظيمة من نجوم فرقة (ساعة لقلبك)، لتسعد قلوب محبيه به وهو يقف على المسرح متأثرا ودامع العينين وهو يرى نخبة من مضحكي مصر العظام على رأسهم فؤاد المهندس وعادل إمام ومدبولي وسمير غانم وغيرهم من كبار كوميديانات مصر العظام يصفقون له بحرارة، وقبل رحيله بأسبوعين جاء التكريم الثاني والأخير له من قِبَل المركز الكاثوليكي للسينما، والذي يحسب له كونه الجهة الوحيدة التي تنبهت لأهمية تكريم المشوار السينمائي للراحل الجميل، خاصة أن أجيالا كثيرة لم تعرفه أصلاً في شخصية الفتوة (شَكَل) في برنامج (ساعة لقلبك)، بقدر ما عرفته من أدواره السينمائية الصغيرة والمميزة.

كان عم محمد يعيش حالة فرحة حقيقية بالتكريمين اللذين حصل عليهما، جعلتني أشعر كم كان متعطشا للتقدير بعد كل هذا العمر الذي قضاه في إسعاد الناس بتفان وإخلاص دون أن يقوم بتكريمه أحد، واللافت ـ والمؤسف أيضا ـ في هذين التكريمين أنهما جاءا بمبادرة من جهتين خاصتين غير رسميتين، ربما لأن "السادة الرسميين" لا ينظرون إلا الى ممثلي الصف الأول وربما يقومون بتكريم ممثل لا قيمة لمشواره سوى كبره في السن، بينما يتعاملون باستعلاء مع ممثل دور ثانوي مثل الأسماء التي ذكرتها سابقا والتي مات أصحابها ولا حس ولا خبر ولم يبق لهم إلا حب الناس الذين ينتظرون ظهورهم في الأفلام بمنتهى الشغف.

أذكر أنني كتبت عقب رحيل العم محمد يوسف مباشرة في مجلة (الكواكب) مقالاً أهاجم فيه طريقة التعامل باستخفاف مع ممثلي الأدوار الصغيرة التي توصف ظلما بالثانوية، وأدعو لأن يكون الاحتفاء بالفنانين مبنيا على تميزهم وإتقانهم ووصولهم إلى قلوب الجمهور، وليس مرتبطا بموقع أسمائهم في الأفيش أو برصيدهم من العلاقات العامة، ودعوت في مقالي إلى أن تقوم وزارة الثقافة عبر أي من مؤسساتها بالمسارعة إلى تبني مشروع لتوثيق المشوار الفني لهؤلاء الممثلين الذين يحملون معهم جزءا كبيرا من ذاكرة الفن المصري لا ينبغي أن يضيع دون توثيق، وهو ما لم يحدث حتى الآن للأسف الشديد من قبل أي جهة رسمية أو أهلية، ولم يتحمس له أحد من أولئك الذين لا هم لهم طول الوقت إلا الظهور في البرامج والمحافل للتباكي على الفن وأحواله، دون تقديم أي عمل ملموس لخدمة الحركة الفنية وتوثيق تاريخ الفن وتكريم كل فنان يقدم البهجة للناس، وهي دعوة لم تتحقق مع الأسف حتى الآن.

رحم الله العم والأستاذ محمد يوسف.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.