العم محمد يوسف فاكهة السينما المصرية (1)
كان واحداً من الذين لا تراهم إلا ويتهلل وجهك انشراحاً وبهجة، ولا يأتي ذكرهم في غيابهم إلا ويلهج الجميع بالثناء عليهم، لكن هؤلاء وقليل ما هم، لا يعرف الكثيرون مع الأسف قيمتهم إلا بعد غيابهم، ولا ينتبه أولو الأمر لأهمية الاحتفاء بهم أو تكريمهم إلا بعد فوات الأوان، أو في حالته هو، قبل فوات الأوان بلحظات.
كان من حسن حظي أن أتعرف على الفنان القدير محمد يوسف قبل رحيله، بعد أن عشقته عبر أدواره الصغيرة التي جعلتني أتمنى العمل معه، وهو ما تحقق عندما عملت معه في دور صغير جدا في فيلم (الباشا تلميذ)، ودور أكبر وأجمل في رابع أفلامي (خالتي فرنسا)، حيث كنت سعيداً بموافقته على لعب دور الجد المصاب بالزهايمر، وأذكر أنه قال لنا ساخراً أثناء احتفال أسرة العمل ببدء التصوير إنه كان يتدرب على الدور باهتمام شديد "مش عشان الفيلم بس وإنما عشان خلاص أنا بقيت على وش زهايمر".
كان مفاجئاً لي عندما رأيته في استديو مصر لأول مرة أن أرى علامات كبر السن وقد بدت عليه بوضوح شديد، كان وقتها قد تجاوز الخامسة والسبعين من عمره، لكنه كان بمجرد أن تبدأ الكاميرا في الدوران يمتلئ فجأة بالطاقة والحيوية، بل أقسم أن ملامح وجهه نفسها كانت تبدو خلال التصوير أصغر مما تكون عليه خارج التصوير، حتى أنني كنت أشعر بالحرج عندما أذهب إليه متحمساً عقب انتهاء اللقطات التي يشارك فيها، متعشما في أنني سأجد الفرصة لكي أسأله عن ذكرياته عن مشوراه الفني الطويل، لأجده في غاية التعب، وأتركه ليستريح على أمل أن تأتي فرصة أخرى للجلوس معه.
أذكر أنه كان يشعر وقتها بسوء حالته الصحية، وكان يحث مخرج الفيلم علي رجب ومساعديه على أن يسارعوا في تصوير مشاهده، قائلاً لهم بسخرية مريرة: "لما يكون معاكو واحد زيي رجل جوه ورجل بره تخلصوا كل مشاهده الأول عشان تبقوا ضامنين وبعد كده تصوروا اللي لسه قاعدين معاكو كتير"، وكان يكرر ذلك الطلب كلما حدث توقف في تصوير الفيلم الذي شهد ظروفاً إنتاجية عصيبة، أدت إلى أن يتوقف تصويره طويلا لعدة أسباب من بينها خلافات منتجي الفيلم مع بعضهم، ثم توقف تصويره بعد حلها في انتظار إنجاب منى زكي لطفلتها الأولى (لي لي)، حتى أننا بعد أن تأكدنا من أن الفيلم سيتوقف لفترة طويلة، بدأنا أنا والصديق العزيز علي رجب ـ عليه ألف رحمة ونور ـ مع المنتجة إسعاد يونس والنجم أحمد حلمي في تصوير فيلم (صايع بحر)، وعرضنا على العم محمد أن يعمل معنا فيه كضيف شرف، لكنه اعتذر لأن صحته ساءت، ولم تكن ستسمح بالسفر إلى الاسكندرية.
كانت المرة الأخيرة التي رأيت العم محمد يوسف فيها عندما تم استئناف تصوير الفيلم في ديكور بمدينة الإنتاج الإعلامي، في مشهد يجمعه مع الفنانة الكبيرة عبلة كامل والنجمة منى زكي ومها عمار التي كانت لا تزال طفلة وقتها، ولا زلت أذكر كيف كان الإرهاق باديا عليه الى حد كبير، لدرجة أن المخرج علي رجب قام بأخذ لقطة واحدة له فقط من اللقطات الثلاث التي كان ينوي أخذها له لاستكمال إحدى المشاهد، وهي اللقطة الضرورية التي كان من الممكن أن يختل المشهد تماما بدونها، وطلب منه أن ينصرف ليرتاح، وأصر عم محمد على أن يكمل التصوير رافضا أن يأذن له علي بالانصراف لتعبه، ولم يوافق على الانصراف الا بعد أن أقسم له علي رجب أنه بالفعل لم يعد يحتاج منه إلى ما هو أكثر مما تم تصويره.
كان محمد يوسف محمد أحمد مبروك المولود في 25 نوفمبر 1925 بمنطقة روض الفرج في حي شبرا في القاهرة، موهوباً من صغره في تقليد كل من حوله، وتطورت هذه الموهبة بعد أن بدأ يتردد في أوائل الأربعينات على مسرح الأزبكية
كانت المفارقة أن المشهد الذي كان يصوره يومها، كان المشهد الأخير للشخصية التي يلعب دورها في الفيلم، حيث نرى الجد بعد أن تعرض لوعكة صحية، وهو ينام في حجر حفيدته منى زكي، ويطلب منها أن تغني له أغنية، ويحدثها عن "عيلتهم الملعوب في شجرتها" في حديث يختلط فيه الجد بالهزل، وبعد أن انتهى من تصوير مشهده الأخير، قام عم محمد بالسلام على جميع الحاضرين بحرارة، واحتضن علي رجب بقوة وقال له " أشوف وشك بخير ياعلي"، وشيئ ما في صوته أثار دهشة علي رجب الذي سأل زين مساعد عم محمد: " هو الأستاذ محمد ماله؟" فقال له زين: "أصل الأستاذ تعبان قوي بقى له فترة وبقى له تلات ايام عمال يوصّي ولاده ويوصيني بحاجات يعملوها بعد موته وحقوق ليه عند ناس ويتكلم كلام حد بيودع".
يروي مساعده زين أن عم محمد بعد أن ركب سيارته بعد أن انتهى من التصوير، وكان قد انتهى في نفس اليوم من تصوير مشهد صغير كان متعاقدا عليه في فيلم (عوكل)، قال لمساعده: "أيوه كده الحمد لله الواحد خلص الشغل اللي كان فاضل له ويقدر يموت وهو مستريح"، وفي طريق عودته الى المنزل أصر عم محمد على أن يذهب به ليصلي في جامع سيدنا الحسين، وأثناء المرور على المقابر بعد مغادرة (الحسين) وكما يروي مساعده طلب إيقاف السيارة إلى جوار المقابر ليقرأ الفاتحة، وفي اليوم التالي أراد أن ينزل لصلاة الجمعة لكن مرضه منعه فصلى وهو جالس في بيته خلف إمام المسجد القريب من بيته، وبعدها بقليل مات رحمه الله.
كان عم محمد يوسف واحدا من جيل "الصُنّاع المهرة الدقّيين" الذين يتفانون في أداء عملهم حتى آخر لحظة من حياتهم، كنت أتأمل بإعجاب شديد أداءه في كواليس التصوير، وكيف كان يؤدي كل ما يطلب منه دون تذمر أو كلل مثله مثل أصغر شاب في اللوكيشن، بل ربما كان بعض من هم أصغر منه سنا يتذمرون ساخرين من أنهم يعملون مع مخرج "ما بيحبش يروّح"، ومع ذلك وفي أجواء مرهقة كهذه كنت تنظر الى عم محمد يوسف فتجد الابتسامة الجميلة لاتفارق وجهه الطيب الذي تزينه عيناه الملونتان الجميلتان، بالمناسبة أذكر أنني أضفت جملة إلى حوار المشهد الذي كان يتحدث فيه عن تاريخ عائلته، تفسر وجود العيون الملونة في عائلة مثل عائلته، وقلت له مداعبا يومها "أصل دي عيون جان مش عيون كوميديان ياعم محمد"، ليرد ضاحكاً "ومين اللي قال لك إني مش جان أصلا"، ليذكرني بأن هذه الملامح الوسيمة هي التي رشحته لدوره المتميز في المسلسل الجميل (أوبرا عايدة) الذي أبدعه الراحل أسامة غازي وأخرجه أحمد صقر، حيث لعب دور ألفونسو الخواجة اليوناني الذي يعيش في الإسكندرية منذ 65 سنة ولم يغادرها يوماً واحداً، ورفع قضية لكي يأخذ الجنسية المصرية لكنه لم ينجح في ذلك.
كان التصوير أحياناً لايتطلب أكثر من مجرد وجود عم محمد في اللقطات التي يتم تصويرها دون أن يتكلم، ومع ذلك كان يؤدي بنفس الروح المرحة الجميلة التي تجعل ردود أفعاله تقوم بتعلية أداء الممثل أمامه وتخدم عليه خصوصا تلك الهزة العصبية الخفيفة التي كان يهز بها رأسه تعبيرا عن غضبه أو امتعاضه مما يسمعه وهي الهزة التي صارت لزمة ارتبطت بدور المعلم (شَكَل) فتوة فرقة ساعة لقلبك الشهيرة، والذي نقله إلى شاشة السينما في فيلم (شارع الحب) مع عبد الحليم حافظ والمخرج عز الدين ذو الفقار.
كان محمد يوسف محمد أحمد مبروك المولود في 25 نوفمبر 1925 بمنطقة روض الفرج في حي شبرا في القاهرة، موهوباً من صغره في تقليد كل من حوله، وتطورت هذه الموهبة بعد أن بدأ يتردد في أوائل الأربعينات على مسرح الأزبكية مع أخيه فرج الذي كان يعمل هناك، ومن شدة غرامه بما يعرض على خشبة المسرح كان يحفظ أدوار جميع الممثلين في المسرحية، وحين غاب أحد الممثلين عن العرض تطوع محمد يوسف للقيام بدوره وأجاد فيه، وتعرف وقتها على عبد المنعم مدبولي الذي كان يعمل ملقناً في الفرقة، لكنه لم يجد الفرصة لتكرار تلك الخطوة، فاتجه إلى تقديم المونولوجات في الأفراح مستغلاً براعته في تقليد إسماعيل ياسين وشكوكو، وكان يقدم "نِمرته" مجاملة لأصحاب الفرح الذين كانوا يفرحون بما يقدمه من ترفيه مجاني، ولأن والده كان يعتبر الفن عيباً ويرفض اشتغاله به، فقد كان يضطر لوضع وسادة على السرير مكانه وتغطيتها لكيلا ينكشف خروجه الليلي من البيت، واستمر في عيش تلك الحياة المزدوجة حتى التقى أحد الجيران بأبيه وقال له: "ابنك محمد دمه خفيف وعمل مونولوج هايل في الفرح"، وكان ثمن تلك الإشادة علقة ساخنة نالها محمد من أبيه برغم أنه كان على مشارف العشرين، ولذلك قرر إرضاء والده بالتركيز في دراسته والحصول على مؤهل عالٍ ثم الالتحاق بخدمة الميري ونيل وظيفة في وزارة التعليم.
لم يفقد محمد يوسف شغفه بفن المونولوج والقافية والتقليد، لكنه ظل يؤديه لأصدقائه فقط في الحفلات الخاصة وأعياد الميلاد، ليعاود اللقاء بعبد المنعم مدبولي في حفلة عيد ميلاد صديق مشترك لهما، وكان مدبولي وقتها قد بدأ عمله في الإذاعة كمخرج ومؤلف، فدعا محمد يوسف للاشتراك في فريق عمل البرنامج الكوميدي الناشئ (ساعة لقلبك) الذي كانت الإذاعة المصرية تراهن عليه بقوة، لكنه لم يُدع للمشاركة بصفته ممثلاً بل كمؤلف، فشارك في كتابة بعض الاسكتشات، ثم قرر أن يُخدِّم على نفسه كممثل، فابتكر شخصية (المعلم شَكَل الفتوة) التي استوحاها من بعض فتوات روض الفرج وبولاق الذين رآهم في صباه، بالإضافة إلى أحد فتوات حي السبتية الذي كان يعمل في سينما السبتية التي كان يتردد عليها محمد يوسف في طفولته، وكانت مهمة الفتوة تتركز في منع الشغب داخل السينما، لكنه كان يؤدي عملاً إضافياً هو الحصول على مقاعد فارغة لمن يأتي متأخراً مقابل حصوله على "نِكلة".
كان محمد يوسف المبهور بعالم الفتوات والناجي من الإصابة من إحدى معاركهم يحلم بتقديم شخصية الفتوة في عمل سينمائي درامي، لكنه حين جاءته فرصة العمل في البرنامج الإذاعي الأشهر (ساعة لقلبك)، قرر استثمار شخصية الفتوة بشكل كوميدي، خصوصاً أن حلقات برنامج (ساعة لقلبك) كانت ستذاع بشكل يومي في شهر رمضان، فعاد إلى مخزون ذاكرته في روض الفرج واستعار منها شخصية مسحراتي أجشّ الصوت يدعو الناس للسحور وهو يشخط فيهم، وصاغ شخصية المعلم شَكَل المسحراتي الفتوة الذي يريد أن يكسب ثواباً بالعافية، ولأنه فتوة لا يمكن أن يمسك طبلة لأنها لا تليق بمقامه، فهو يقوم بعمل أصوات الطبلة بفمه "طم طرام طمطم"، وأعجب عبد المنعم مدبولي وفهمي عمر المشرف على البرنامج بالفكرة وبدءا التعاون مع محمد يوسف الذي كان يحصل على أجر قدره أربعة جنيهات، ثلاثة جنيهات مقابل نشاطه في التأليف، وجنيه واحد فقط مقابل تمثيله، وحين شارك مع زملائه في الفرقة في تمرد لرفع الأجور، وامتنعوا عن تسجيل البرنامج لمدة شهرين، تعرض تحركهم للفشل بسبب عدم التزام نجمي الفرقة فؤاد المهندس وعبد المنعم مدبولي، وقد كانا الأشهر والأهم، ولذلك ظلت الأجور منخفضة، وبقي محمد يوسف راضياً بقليله الذي كان يعوضه من خلال عمله كمدرس للرسم في مدرسة الحسينية.
...
نكمل غداً بإذن الله.