العباءة في فرنسا وفرانسواز ساغان
تزامنًا مع ما يدور في فرنسا تجاه ارتداء العباءة، قال بعض القوم فيما ذكر لي "لقد دعوت مرارًا وتكرارًا إلى الحذر في اختيار الألفاظ، لقد أسرفنا في قولنا: تحت العباية حكاية؛ فأدرك الفرنسيون الأمر على غير مقصده، واستهدفوها وحملوا عليها بخيلهم ورجلهم، انتقلوا من الإسلاموفوبيا إلى العباءة-فوبيا". أتبع كلماته بصوت ما، في حين قال غيره "فرنسا لا تريد سوى فرانسواز ساغان!".
قد تأتي الشّهرة مبكرًا جدًا وتصبح التّحدّيات أكثر جسامة والتّبعات أكثر خطورة، عمل واحد يرفع المرء إلى السّحاب، لربما يأتي السّقوط مدوّيا مثلما كان التّحليق، لعلّ الظّروف المحيطة تسهم في رواج العمل، فإذا سكنت رياحها ذهب كلّ شيء في لمح البصر أو أسرع، ليس ذلك قاصرًا على "الفاشينستات" و"الإنفلونسرز"، الأمر قديم متجدّد، وفي الإعادة تأكيد وتحذير وإفادة.
بعد تخطّي عقبة الثّانوية سنة 1951، توقّف قطار، فرانسواز كوريز، الأكاديميّ بالسوربون، مثلما وقف حمار الشّيخ في العقبة، إذ لم تنجح في اختبارات السّنة الأخيرة، وباتت تنظر خلفها يوم طُردت من المدرسة الدّاخليّة الدّينيّة. قال المسؤولون إنّ ابنة الثّالث عشر ربيعًا لا تصلح لعالم الدّين والروحانيّات، إنها "خرّاجة ولّاجة" اعتادت صحبة السّكارى، إنها على حافة الفشل إن لم تكن غارقة فيه! قالوا لأبيها "بنتك ماشية على حل شعرها". ها هي تجتر ذكريات الأمس، لا تعرف لنفسها هُوية أو اهتماماً، ولم تكن وحدها آنذاك، ففرنسا تدور في هذا الفلك منذ سنوات.
بعد حربين عالميتين، ضجّت مدينة النور بمقالة كتبها الفيلسوف الفرنسي، جان بول سارتر، قال فيها إنّ الإنسان يعيش في عالم مجنون، عالم وجِد فيه المرء وتُرك ليبحث عن هُويته، الوجوديّة هي الحل، وعلى المرء أن يعيش الحياة "بالباع والذّراع"، على المرء أن يعيش كما يحلو له، قال إنها فلسفة يجب أن يسمعها الجميع، قال إنها فلسفة يجب أن يفهمها الجميع، قال إنها فلسفة يجب أن يدور في فلكها الجميع. استقطب رفيقته وتلميذته الأثيرة سيمون دي بوفوار وجان كوكتو وألبير كامو، اندمج في عالم الشباب ليلامس واقعهم ويرسّخ فكرته، أسّس مجلة "الأزمنة الحديثة" ليوسّع دائرة نفوذه.
ما هي إلا سنوات قلائل، وسيخرج عدد من الوافدين الجدد إلى باريس بمبدأ مغاير، مسرح العبث، روّاده الأيرلنديّ صامويل بيكيت، الرّومانيّ يوجين يونسكو، السّويسريّ فريدريش دورينمات، الرّوسيّ آرثر أداموف، والإسبانيّ أرانال، واللبنانيّ المولود في الإسكندريّة جورج شحادة، جمّعتهم عاصمة النّور، خلبت الأضواء أنظارهم وعقولهم، وتبعتهم جموع غفيرة لا سيّما من الشّباب.
قال الناشر لنفسه، هذه الوجوديّة الّتي يدندن على وترها سارتر، وإن كان سارتر منظّر الفلسفة الوجوديّة، فإن هذه الفتاة ستكون أديبة الوجوديّة
بعد صدمة الفشل الدّراسيّ، قرّرت فرانسواز أن تعبر الجسر، أن تكتب بعض الخواطر عن فتاة منطلقة من كلّ قيد، فتاة لا يمنعها شيء عن كلّ مغامرات الجسد، إشباع نزوات الجسد أمر خاصّ، لا ينبغي أن تُمنع تلك الفتاة من التّصرّف في جسدها وَفق ما يحلو لها، كانت تلك هواجس فرانسواز ابنة الثّامن عشر ربيعًا. في خمسة أسابيع بحسب لوموند الفرنسية، أو سبعة أسابيع )أو في ثلاثة أشهر في رواية مغايرة)، كتبت رواية تدور في فلك الشّهوة والوحدة والغيرة والملل والبحث عن معنى للحياة العجيبة الغريبة.
عرضت ما كتبته على صديقتها فلورانس مالر، ابنة الكاتب أندريه مالرو، وزير الثّقافة في عهد شارل ديغول، فأعجبت بما قرأت ونصحت صديقتها بنشر تلك المادّة. لم تقتنع فرانسواز، فاستشارت الكاتبة الصّحافيّة كوليت، وهي محرّرة بمجلة سارتر (الأزمنة الحديثة)، فأغرتها بنشر العمل في أسرع وقت ممكن. بحثت الفتاة عن ناشر، وصلت إلى دار نشر جوليار، دخلت مكتب المدير، فسألها: "أمّك كاتبة هذا العمل؟". أجابت بالنفي، وحين أخبرته أنها صاحبة المادّة طلب منها أن تُحضر والدها ليوقّع العقد لأنّها قاصر.
نظر النّاشر بعين تعرف السّوق ومتطلباته، ومع السّطور الأولى صرخ "إنها قنبلة". سال لعابه وهو يدير في رأسه أمرًا، يقول في دخيلة نفسه إنه ليس من مألوف العادة أن تتحدث فتاة عن الجنس بهذه الجرأة، هذا سيروق الشّباب كثيرًا، هذه الوجوديّة التي يدندن على وترها سارتر، وإن كان سارتر منظّر الفلسفة الوجوديّة، فإن هذه الفتاة ستكون أديبة الوجوديّة، ستكون أيقونة جيل التّمرد في العالم أجمع، سيكون لهذا العمل شأن في قابل الأيام.
تأتي الفتاة مع والدها الذي تبدو عليه علائم الثّراء، يجلسان في مكتب مدير "جوليار"، يوافق الأب على نشر عمل ابنته بشرط ألا تضع اسم العائلة على هذا العمل المشين. وفي ثوانٍ معدودة تقرّر الفتاة استعمال لقب يُبعد تمامًا عن أهلها وصمة العار والشنار. كانت تقرأ رواية "البحث عن الزّمن الضّائع" لمارسيل بروست، بطلها البرنسيس دي ساغان، فاستقر قرارها على لقب ساغان بطل الرواية؛ فعرف عالم الأدب اسمًا أدبيًا يقال له فرانسواز ساغان. أتحفها صاحب "جوليار" بمبلغ 150 ألف فرنك فرنسي فور توقيع العقد.
يتبرّم والد الفتاة بالجو الجديد الذي ألقته فيه ابنته، لم يدْر أنها بعد عام واحد من هذه اللحظات ستتسلّم شيكًا بنكيًا بمبلغ 5 ملايين فرنك فرنسيّ، ستصبح حديث القاصي والدّاني، ولم يدُر بخلده أنّ ابنته ستجمع في غضون 12 عامًا 500 مليون فرنك فرنسيّ، لكن كيف ستتصرف بهذه الثّروة الخياليّة؟ هو لديه فكرة مسبقة عن ذلك، ربما تتحقّق حرفيًا وربما يخيب توقّعه!
حمل العمل اسم "مرحبًا أيها الحزن" وله ترجمات مختلفة بالعربية، استوحته من قصيدة للشّاعر بول إيلوار بعنوان "وداعًا أيها الحزن"، على غلاف الطّبعة الأولى وضعت "جوليار" شريطًا أحمر، وفي وسطه كتبت "قلبٌ يسكنه شيطان لفتاة لم تتجاوز 18 عامًا".
صدرت الرّواية عام 1954 بسعر 390 فرنكا فرنسيًا قديمًا، وفي العام نفسه تُرجمت إلى اليابانيّة، في حين وصفت الصّحافة الفرنسيّة الرّواية بأنها "لا أخلاقيّة، إذ يعطي مضمونها صورة غير شريفة عن المجتمع الفرنسيّ"، في موسكو قُدّمت الرّواية على أنها دليل ماديّ للحياة الفاجرة الّتي يفرزها النّظام الرأسماليّ!