الشاعر البردوني وقصيدته اليمن

05 يناير 2023
+ الخط -

بين الشاعر ووطنه ترابط لا انفكاك عنه، مهما حاول الشاعر التحليق في عوالمه البعيدة عن التراب، إلا أنّه يظلّ مشدوداً لوطنه، ولو سكن الخلد نفسه، كما عبّر عن ذلك أحمد شوقي ببيته الشعري الشهير:

وطني لو شُغلت بالخلدِ عنه... نازعتني إليه في الخلد نفسي

سواء كان هذا التحليق اختيارياً أو إجبارياً، فوجدان الشاعر يظلّ مشدوداً لذلك الوطن، وينعكس ذلك على شعره وأدبه، حتى يكاد يتوحّد مع وطنه!

فها هو شاعر العراق الكبير، محمد مهدي الجواهري، وبالرغم من تقلبات حياته المضطربة، والتي اضطرته إلى الهجرة واللجوء السياسي أكثر من مرّة خارج العراق، إلا أنّ العراق بقي لساناً وشعراً متدفقاً بالنسبة إليه، إذ يقول:    

أنا العِـراقُ، لساني قلبُهُ، ودمي… فراتُهُ، وكياني منهُ أشطارُ

ومثله أيضا كلّ شاعر كبير مع وطنه. وأجد مثل هذا التماهي أيضاً عند الشاعر اليمني الراحل، عبد الله البردوني، مع بلده اليمن، سواءً في شعره أو نثره؛ إذ تبعثرت أسماء المناطق والسهول والجبال والوديان والأشخاص اليمنيين في صفحات الدواوين والكتابات البردونية، فكانت مسيرة البردوني الأدبية رحلة في ثنايا اليمن، يمن الجغرافيا، ويمن التاريخ، ويمن الإنسان البسيط على شاكلة البردوني نفسه؛ الذي ظل يذيّل كل مقالاته في صحيفة، 26 سبتمبر، الأسبوعية بعبارة "المواطن عبد الله البردوني".

يقول الإعلامي عارف حجاوي في كتابه "آخر الشعر.. رحلة النهاية للشعر العمودي في القرن العشرين": "وأبيات البردوني فيها تساهل في اللغة وفي الوزن، وفيها حشْد من أسماء المدن والأشخاص حاشد، وفيها إيماءات كثيرة إلى التاريخ وإلى الأشعار القديمة، وفيها إيماءات إلى يوميات الحياة المحلية".

مسيرة الشاعر البردوني الأدبية رحلة في ثنايا اليمن، يمن الجغرافيا، ويمن التاريخ، ويمن الإنسان البسيط على شاكلة البردوني نفسه

بدأ البردوني مسيرته الشعرية "من أرض بلقيس"، سائراً "في طريق الفجر"، باحثاً عن "مدينة الغد"، مهدياً قصائده "لعيني أم بلقيس" التي تطوّع من أجلها بـ"السفر إلى الأيام الخُضْر"، برغم ما يراه من "وجوه دخانية في مرايا الليل" القاتم، ليل العمى، وليل الظلم الجاثم على هذه الأرض، صانعاً "زمانا بلا نوعية"، مثيراً أعراساً من الغبار لا ترى معصميها فيها اليمامة، فاحتاج البردوني إلى "ترجمة رملية لأعراس الغبار" الذي دفعه إلى أن ينزع عنه شوقه الأول إلى "كائنات الشوق الآخر"، متابعاً السير، وبرغم العمى المصاب "راوغته المصابيح" اللامعة فضاقت به السُبُل، وهو "جوّاب العصور" الباحث عن أفقٍ لبلدته التي تشتاق إلى "رجعة الحكيم بن زايد"، لسانها المعبّر بعد ما اتعبت ابنها في رحلته؛ "رحلة ابن منْ شاب قرناها" التي بالرغم من هذا المشيب ما زالت تهفو إلى نوع جديد من العشق ولو كان "عشقاً على مرافئ القمر"، رفيقها في البحث المضنى ابنها، البردوني، ذلك المبصر الذي لم ينحنِ يوما ليتمسّح بأحذية السلاطين حتى رحيله.

وكذا كتبه النثرية جاءت عناوينها: رحلة في الشعر اليمني.. قديمه وحديثه، قضايا يمنية، فنون الأدب الشعبي في اليمن، اليمن الجمهوري، الثقافة الشعبية تجارب وأقاويل يمنية، والثقافة والثورة في اليمن، من أول قصيدة إلى آخر طلقة، دراسة في شعر الزبيري وحياته، أشتات.

هنا نجد اليمن حاضرا بقوة، فهل هذا هو العشق؟ 

ليكن، ألم يقل هو: 

غدا أعنفُ العشقِ عشقَ التراب      وكلُّ هوىً لسواهُ ضياع؟

يقول الناقد وليد مشوح في كتابه، الصورة الفنية في شعر عبد الله البردوني: "شاعر يماني حتى النخاع، فاليمن هو، وهو اليمن، وكلاهما من سخريات القدر الظلوم كما كان يصرّح بقوله: "أنا واليمن توأمان متماثلان كتضاريسه (يشير إلى الندوب التي تركها مرض الجدري)، وهو أعمى لا يرى الحضارة، وأنا أعمى لا أرى الجمال والنور، وهو عقيم ما ولد معطىً حضارياً، وأنا عقيم ما استخلفت ضنى يحمل اسمي، إذن أنا وهو متماثلان حتى التماهي".

عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
كاتب ومهندس من اليمن، مهتم بالعلوم ونشر الثقافة العلمية. لديه عدّة كتب منشورة إلكترونيا. الحكمة التي يؤمن بها: "قيمة الانسان هي ما يضيفه للحياة ما بين حياته ومماته" للدكتور مصطفى محمود.
عبد الحفيظ العمري