الشارع العربي والمقاومة الفلسطينية
عزيز أشيبان
تتساقطُ المواقفُ وتتهاوى الأوهام، ويهبطُ الخونةُ والعملاء والمطبّعون إلى دركِ الذلِّ والعار والمهانة. يحاولُ المحتل ويكابدُ من أجل نشر الشك ومنح الشرعية للظلم والجور وفرضِ سياسة الأمر الواقع، لكن شموخ روح المقاومة الفلسطينية وأصالتها تعلو وتربك الجميع وتُوقظ الضمائر من نومِ الغفلة وتيهان اليقظة وتصحيحِ المفاهيم وكشفِ الحقائق.
المقاومة ثمّ المقاومة، ولا استشراف للمستقبل في غيابها، هي تعبير عن تمثّل قوةِ حضورِ ورفضِ الجور، ولو احتضنته جميع قوى العالم. هي مقاومة تنبعثُ من قلوبِ رجالٍ أشاوس، تلهم جميع الأحرار الأقحاح في بقاعِ العالم، وتعبّر عن قضيةٍ إنسانية لها شرعية تاريخية هدفها التحرّر من براثن الاستعمار والتآمر والخيانة.
من المؤكد أنّ القضيّة الفلسطينية قضيّة قيم إنسانية عالمية ليست لها حدود أو قيود، تترفعُ عن الخصوصياتِ والانتماءات والحدود القُطرية الضيّقة، ومع ذلك فهي قضيّة جميع العرب والمسلمين بحكم المشترك من الوجدان والتاريخ والجغرافيا والعقائد الدينية. ومن ظنَّ أنّه غير معنيّ بها، فهو ليس بمنأى عن مسلسلِ التضييق والتطويق والبلقنة والحصار الذي يستهدفُ دول المنطقة العربية لتشتيتِ الشمل وزرع الفتن ووأدِ بذور الممانعة والمقاومة واستدامةِ الخضوع. نعي جيّداً أنّ القضيّة مفصليّة، ولها حساسية قُصوى في وضعِ جميع الدول العربية ونوعية المستقبل المرجو صناعته، تتسيّد الواجهة العربية وتستأثرُ بالريادة وتقدّم الدروس والعبر وتمثّل شرارة التحرّر في جميع بلدان المنطقة العربية باعتبارها قضيّة غير قابلة للفصل أو التفكيك أو العزل عن نضالِ باقي البلدان. فإمّا مستقبل العزّة والكرامة والاستقلالية وحريّة امتلاك المصير، وإمّا مستقبل الذل والتبعية والاندثار.
ما نعاينه من ملحمةِ الأخوّة في فلسطين، رغم العدد المهول من الشهداء وهول الخسائر، هو تجسيد لبسالةِ وشجاعةِ الإرادة الشعبية الفلسطينية التي لم يستوطنها اليأس رغم فظاعة تواطؤ قوى الداخل والخارج على حدٍّ سواء، وانعكاس لحقيقةِ صناعة الأمل من رحم اليأس والخيبات، الأمل الذي يكتنفُ الرؤية ويمنحُ الثقةَ في النفس والثبات ويقي من الزيغ والتيهان. من الطبيعي أن تحظى هذه الملحمة البطولية بتضامنٍ شعبيٍّ عربي واسع ومُستدام وتفاعل مع تفاصيل المستجدات بقلقٍ وغيرةٍ وتعاطفِ الأشقاء. هذا المُعطى والتفاعل الوجداني جميل وملهم ومحفّز، ولا يشكّك في مصداقيته وتلقائيته أحد، لأنّه يعبّر عن انتماء وصدق الإيمان بالقضية. لكن، إذا كان الشعب الفلسطيني قد أدّى الواجب وأوفى، فماذا عن الشعوب العربية والإسلامية؟
إمّا مستقبل العزّة والكرامة والاستقلالية وحريّة امتلاك المصير وإمّا مستقبل الذل والتبعية والاندثار
هل الدفاع عن فلسطين يتحقّق فقط بالتنديد والاحتجاج؟ لماذا لا يرقى هذا التفاعل الشعبي إلى قوّةِ ضغطٍ نشطة؟ ألَا يستوجبُ عقلنة الحماس الوجداني المنبعث من شعورِ الانتماء وتحويله إلى ردودِ أفعالٍ قادرة على إنتاجِ مُخرجاتٍ ملموسة على أرضِ الواقع؟ أليس المطلوب الضغط على صنّاع القرار في المنطقة العربية من أجل التحرّك ومساءلة الذات وإسقاط مؤامرات العمالة والتطبيع؟ بما أنّ المخرجات تتحدّد من نوعيةِ المدخلات، فلا مناص من مراجعة أنساق التفاعل والنضال القائمة وإجراء القطيعة مع مجموعةٍ من تصوّراتِ ردود الأفعال.
حقيقة، يحتاجُ النضال الشعبي الفلسطيني إلى مواكبةٍ واحتضان من طرف الشارع العربي لمنح الدعم الفعلي والملموس من أجل الصدع بالحق والنهوض بالواجب التاريخي نحو الأمة. ربّما ينطلق الإسهام الحقيقي من المعرفة بتاريخِ القضيّة ومراحل تطوّر أحداثها وبناء وعي رصين بتفاصيلها، خصوصًا للأجيال الحديثة حتى يستقيمَ الجهاد ومسار الدفاع عنها.
في الواقع، إنّ الجهلَ بتاريخ القضيّة والحماسة الآنية لا يخدمان مستقبلها في شيء، ولا يُعينان على مجابهةِ عمليات التعتيم والطمس وتزوير الحقائق واختزال الوقائع التي تستهدف ثوابت شرعية الحق الفلسطيني، ولا يحولان دون الانسياق وراء دُعاةِ المُتاجرة الذي يؤدّي إلى الانسلاخ عن الهدف المفصلي للمقاومة والانصراف إلى خدمةِ أجنداتٍ سياسية تقوم بأدلجةِ النضال وتشويه ماهيته.
نحتاجُ أكثر إلى المعرفةِ والتوثيق وبناء وعي متجدّد من أجل الترويجِ للقضيّة وتشخيص أحسن السفراء لها، بل ربّما يحتاجُ النضال إلى مقاربةٍ جديدة تنفصل عن المقاربةِ الكلاسيكية التي استمرت إلى عقودٍ من الزمن، ولم تُواكب كفاح الشارع الفلسطيني الحر من خلال ترويض صناعة القرار الرسمي العربي وإجبارها على إنقاذِ ماء الوجه والانخراط الفعلي في طموحاتِ الشارع العربي، والتركيز على فهم أعمق لموازين القوى وتغيير سبل التعامل معها وإيجاد بدائل وتوظيف مقوّمات قوى الضغط التي تمتلكها الدول العربية والإسلامية.
من جهةٍ أخرى، هناك ضرورة ملحة إلى فصل القضيّة عن النزاعاتِ والحسابات البينية بين الدول العربية والإسلامية وحمايتها من الاختطاف والمتاجرة والمقايضة. كما يجب المساهمة في ترميمِ البيت السياسي الداخلي للفلسطينيين عوض الاستمرار في تمزيقه من خلال استمالة الفصائل الفلسطينية وابتزازها خدمةً لأجندةٍ انتهازيةٍ معيّنةٍ لا تُحدث إلا الشرخ والتفكك.
شعوب المنطقة العربية شعوب نقية، وفية وأصيلة، وتكتنزُ من الذخائر ما يمكنه إحداث الفرق وقلب الموازين إذا تمّت تعبئتها بالطريقة العقلانية الرشيدة والكفّ عن معاملتها بالوصاية والحجر. فهل من يفعل؟