السيرة الذاتية لغزّة (1 من 2)

25 نوفمبر 2023
+ الخط -

"‏القصف زي المطر علينا في الشجاعية، صواريخ متتالية، حزام ناري عنيف"، "‏الشجاعية مدينة أشباح، ولا وجود للإسعافات، ولا الهيئات الدولية، والقصف على صورة حزام ناري يستمر حتى الآن دون توقف، فيما الكهرباء والمياه والاتصالات مقطوعة"، "‏القصف شرق الشجاعية أغلبه ثقيل بيهز البيوت بشكل ارتجاجي زي الزلزال، الله يسترنا ليلة تشبه ليلة مجزرة الشجاعية في 2014!"...

أبدان أَذِن لها ربّها بالنشور، لتكشفَ صورةً مشوّهة للعالم والأنظمة وكلّ تجارات الكلام. بنانُ يدٍ تُشير نحو الهاوية التي يقبع فيها الظلم وحلفاؤه بأنيابٍ مستعرة ونهمٍ كبير للدم. فراشٌ كثيف يمتد من الأرض إلى السماء، حاملًا معه نعوش الأطفال. أزِقَّة دسمة باللحم المشوي والشعر المحروق، بالعظام المنشورة، خذوها، يمكنكم الآن أن تكوّنوا منها ما شئتم من طاولات كي تقدّموا عليها حدادكم المزعوم الموشوم بكلمات الإدانة المكرورة، والحبر ليس مشكلة، فالدماءُ هنا بركٌ لا تنضَب.

ها نحن نلملم شعرنا الأغبر الأشعث لينسج لوحةً رمادية تفوق عمل أمهر فنان، ليست صفراء ولا زرقاء، بل رمادية يتوّسطها دمٌ يُضيء. قافلة كبيرة تضم أمهات مكلومات بصدورٍ مفتوحة ترى منها فراغَ كل ابنٍ نُزِع منهن. ماذا نقول؟ أليست المشاهد وافرة بما يكفي لتُلجِم الألسُن، وتبيّض العيون؟ ألم تبلغ القلوب الحناجر؟ وتمسي المصابيح لهيبًا يحفِر الجلد ويرسم خريطة ثأرٍ ودمٍ وفقد.

مدير مستشفى شهداء الأقصى: "بعض الحالات التي تصل لا يوجد عليها آثار إصابة، لكنها تستشهد بسبب تمزّق أحشائها بفعل الضغط الكبير الذي يصدر عن القنابل عند انفجارها على منازل المدنيين الآمنين".

يلوكون الصخر ماءً، يحرّرون الأنامل البارزة من تحت الركام. "يمّا هي بكلتها في إيدي"، سيدة فلسطينية تبكي فراق ابنتها.

لُعبة بقي منها حاجب، وطفلة بقي منها عينٌ مُعاتِبة، الخريف حلٌ متأخرًا، أخذ معه كلّ الأوراق اليانعة لكنه لم يستطع العبث بالجذور. زادت القبور فملأت البلاد بالمسك والنور

لُعبة بقي منها حاجب، وطفلة بقي منها عينٌ مُعاتِبة، الخريف حلّ متأخراً، أخذ معه كلّ الأوراق اليانعة، لكنه لم يستطع العبث بالجذور. زادت القبور فملأت البلاد بالمسك والنور.

يقول طارق مصطفى الذي فقد عائلته كاملة، المكونة من ثلاثة وثلاثين نفراً: "بنت عمي، الشهيد أبو جعفر، الشهيدة سندس وأبناءها متبخرين، يا جماعة لاقيين بس شوية شعر مع فكّ فم وقطع صغيرة من الأطراف. بعد بحث معمّق تم صلاة الغائب عليهم دون أثر حقيقي للجسد! 7 أشخاص لم يكتف الاحتلال بحذفهم من السجل المدني، بل حرقهم حرق ببراميله المتفجرة. حسبنا الله ونعم الوكيل. حكام العرب لا داعي لفتح المعبر وإرسال الأكفان لا سمح الله، فالاحتلال يعمل على تبخير العائلة بأكملها".

لا تدفنوا الجمجمة، اتركوها لنضربهم بها بعد أن نفرّغ كيس الأشلاء إلى مثواه الأخير، بعد أن نطحن باقي العظام طحيناً نملأ به البطون الخاوية خبزاً... ولا نعرف فقد يأكل أحدهم خبزةً ملطّخة بدم أهله.

أترقب، وأتنقل بين صفحات الأخبار. تُرسل لي أمي الآن من غزّة في حيّ الشجاعية تحديداً أنّ القصف عنيف جداً، عائلتي كلّها في غرفة واحدة في البيت الآن، ثلاث سنوات لم أرَ عائلتي، لم ألمس أمي، ولم أقبّل يدها، لم أستيقظ على صراخ إخوتي ومشاغبتهم، ثلاث سنوات وأخاف من أن تطعنني هذه الحرب في أعمق نقطة بالصميم فأفقدهم. يا الله.

‏أغلب الذين استشهدوا حتى اللحظة أعرفهم، وأخاف من أن أرى صوراً وأخباراً أكثر، وقلبي في غزّة. "يا ربي لا تفجع قلبي بعائلتي، ولا في أصدقائي، وجيراني. يا رب احفظهم وليس لنا سواك".

‏أغلب الذين استشهدوا حتى اللحظة أعرفهم، وأخاف من أن أرى صورًا وأخباراً أكثر وقلبي في غزّة

‏عندما كنت في غزّة كنت أتابع الحرب عبر النوافذ، في كلّ قصف أفتح النافذة، وأفهم من الدخان مكان الهدف، أما الآن أركض بين قنوات الأخبار، أقرأ الخبر كاملاً وأفتح الخريطة على الهاتف، أعدّ أماكن القصف. كم منزلاً بقي؟ كم عائلة ذهبت؟ هذه طريقتي حتى أهدأ، وأعلم أنّ عائلتي لا تزال بخير.

هذا سهمٌ طويل يخترق ألباباً كثيرة مجتمعة في شريط واحد، حالة استثنائية لم تسبق أن مرّت على القطاع، القطاع الذي يمثل جنّة الخلود لساكنيه، فكما يقولون "الجنة من غزّة أقرب لنا"، وكلّهم على أهبة الارتحال والصعود.

‏دائماً ما كنت أكتب مذكراتي اليوميّة، أختصر اليوم كلّه عبر عبارات أو قصة قصيرة. المهم قبل قليل رسمت خريطة غزّة. ولأنّي أحفظ غزّة كما لو أنّها حارة صغيرة، أصبحت أشطّب المربعات والمناطق التي تمّ هدمها. في الحروب السابقة كنت أكتب الأبنية، الآن حارات وأبراج كاملة انتهت بالكامل.

"عاجل عن مجزرة الجنوب: ‏أبلغهم الاحتلال بالنزوح والخروج من منازلهم. بعد دقائق من خروجهم إلى الطرقات قصفهم بالطائرات الحربية بشكل جماعي، أوقعت المجزرة 70 شهيداً و200 إصابة حتى الآن".

‏دائماً ما كنت أرى الأشياء بصورة أخرى، حين أسمع كلمة "استهداف" أفهم أنّ هناك أهدافاً تحققّت. قد قتلوا أحلام الغزّيين وقصصهم. كأنّنا في مباراة كرة قدم، الطائرة الأفضل هي التي تحقّق الأهداف الأكثر. استهداف جديد، عاجل: استهداف جديد. المهمة سهلة بالنسبة إليهم، يضغط الجندي على الزّر ويحرز الأهداف.

"يا رهف ردي على أبوكي يا رهف"، أب ينادي ابنته تحت الركام.

الآن لا توجد عائلة في غزّة لم تنع شهيداً على الأقل، شهيد واحد؟ هذا ترف لو حصل، الآن عائلات بأكملها ممسوحة من السجل المدني، مقابر جماعية تزدحم بالأهل، واحد وسبعون فرداً من عائلة واحدة ذهبوا إلى بارئهم وتركوا خلفهم طفلة بعمر السنة ونصف مصابة بشلل نصفي. شراسة لم نكن نتخيّلها، فما نشاهده الآن، كنّا نقرأ عنه في كتب الحروب العالمية. 

في الحرب، تتنافس الأخبار علينا، أيّها تكون الأشدّ قساوةً علينا

أتواصل مع عائلتي بكلمتين: "قصف، هدوء". الموقف أكبر من الاحتمال والشرح، منذ يومين وأنا أمام شاشات الأخبار، أهلي تحت القصف، بيت جدي نزحوا، والبرج الذي كانوا يعيشون به صار ركاماً فقط. في الحرب، تتنافس الأخبار علينا، أيّها تكون الأشدّ قساوةً علينا.

معظم أصدقائي في غزّة أرى صورهم شهداء، حبيبي وصديقي وجاري خالد شهيد، معلمي الحبيب شهيد، وأغلب الأعزاء. قنابل الفوسفور المحرّمة دولياً تسلخ جلود الأطفال والمدنيين الأبرياء، الإسعاف مُستهدف بالقصف، المستشفيات، الحجر والشجر.

مشهد حالي: "أب يحمل ابنه الشهيد، وفي الخلفية صلاة على شهداء، أينما تسير فهناك شهيد"، "‏الوضع صعب ومش بسيط.. القصف مكثف جدًا ولا يتوقّف، الطيران قريب، الانفجارات مرعبة، إطلاق نار متواصل".

يا ريتني في الحرب الآن، تعب نفسي مرعب، لا كهرباء، لا إرسال، لا ماء، لا إنترنت، لا معدّات طبية، ولا وقود. نوم متقطع، كلّه كوابيس، سهر دائم متواصل، بالدقيقة والثانية قصف، لم يتوقف دقيقة واحدة طوال أيام العدوان حتى اليوم. ثلاجة الموتى لا تتسع، وضعوا الجثث في عربات المثلجات، والآن في الأرض يتكدسون، كلّ 60 ثانية قصف وشهداء وأحلام وطموحات...

معظم أصدقائي في غزّة أرى صورهم شهداء، حبيبي وصديقي وجاري خالد شهيد، معلمي الحبيب شهيد، و .. أغلب الأعزاء

"قسم الاستقبال والطوارئ يجري عمليات العلاج على إضاءة الهواتف!".

من ساعات أحاول التواصل مع العائلة والجيران، لا أحد يردّ ولا يوجد إنترنت، أتصل دولياً ولا رَد، مربعات سكنية كاملة مُسحت وصارت رماداً.

 أنظر إلى الشجرة، معلّق عليها حلّة زهرية مطرّزة بالزيتون، أُمعن النظر فأجدها رئة أختي يخرج منها صوت عميق، أهزوجة مجنونة تجعل بصري حديد. ‏تدرك أنه محتَّمٌ عليك المرور بكلّ هذا. تستسلم لهذا الحزن الجارف، لليد التي تعصر قلبك كلّ ليلة. تفهم تماماً ما تقوله الأمهات حين يصفن شعورهن "قلبي زي النار".

ما عاد القلب يحتمل الفقد أكثر، تصلني الأخبار والصور وأخاف من الاقتراب وفتح الرسائل، الحزن أكل وجوهنا، وملامحنا صارت خريطة ألم. لا أعرف كيف سيعتاد الإنسان كمية الفقد المرعبة هذه. المكان الذي يشكل الذاكرة، بل البشر، أصحاب القلب، كلّهم راحوا، رياح وغبار ودماء...

"مشان الله يلي عنده معلومات يرد علينا". يا ربّ، أقم الساعة.

في 14 أكتوبر/ تشرين الأوّل أتممت 26 عاماً، ترسل لي أمي والقصف فوق رأسها "العمر كلّه يمّا"، هذه الرسالة جعلتني أنهار بكلّ جوارحي، جسدي تشنّج، رائحة قلبي المحترق ملأت الغرفة. أي عمر يا أمي؟ كلّه؟ لا أريد عمري كله، أريد أن أراك الآن، أريد ضمك ولمس وجهك.. سامحيني.

(يتبع)