السيرة الذاتية لغزّة (2 من 2)

26 نوفمبر 2023
+ الخط -

عاجل من مستشفيات غزة: "ولادات قيصرية من دون تخدير بسبب نقص المواد الطبية".

جاء الليل، ليل موحش مخيف، ليلنا النهار المضيء بآية من آيات الرعب والتنبه بأصوات متداخلة بصوت الثكالى ودموع الحيارى ونزف الرمل، وحقائب كثيرة مزدحمة بالجلود والشّعر والأصابع، يدُ أمٍ وذراعُ أبٍ وقلب أخ كونوا جسداً وناموا في سلام.

مهترئ القلب، تركت كل شيء ووجهت نظري وفكري إليهم، ما أنا فيه الآن موت حقيقي ومضمون، موت بطيء وعذاب لا يوصف..

أحياناً أصلي وأتكلم مع الجدران، أحياناً أدعو وأحياناً أسأل نفسي سؤالاً  واحداً "كيف سأكمل حياتي لو فقدت عائلتي؟".

أخي براء خرج من البيت بعد أن جاع أخي الأصغر وانتهى الخبز، توسلت له أمي أن يبقى ولكنه صرخ فيهم قائلاً: لن نموت جوعاً!

خرج يبحث في الشارع عن خبز!

أقرأ الأخبار العاجلة وأتمنى ألا يكون الخبر يخصهم قلبي يغلي.. أهلي لا يقولون الحقيقة، عقلي ساح وزاغ بصري وبلغ قلبي الحنجرة!

الاحتلال خلق مساراً واحداً للغزّي كي يسلكه، الموت. ولكن هذه المرة أصبح رحيماً فقد طوّر نفسه وأسلحته، أصبحت الصواريخ تقتل عائلات كاملة، دون أن تخلف وراءها أحداً ولا شيء.

"عاجل: حالة من الهلع تصيب مرضى السرطان والطواقم الطبية جراء تحطيم مستشفى الصداقة التركي الوحيد لمرضى السرطان في قطاع غزة وإلحاق أضرار بليغة فيه، نتيجة استهداف الاحتلال الإسرائيلي لمحيطه بشكل متكرر".

قطعوا الإنترنت، وأوقفوا الشبكة بشكل كامل عن قطاع غزّة! كل ما سيحصل الآن لا سبيل لمعرفته! وصل الجنون بنا مداه، ماذا خلف كل هذا التعتيم يا رب! أرتجف طوال الوقت، أتصل دولياً في كل ثانية طوال فترة الانقطاع، كل لحظة أتصل ودموعي تحرق وجهي وقلبي خرج من ضلوعي، هذه إبادة جماعية مؤكدة، يا الله!

توشّحت السماء ببياضٍ يُغطي عين الشمس، أبيض يعلو يتبعه أبيض، كفنٌ يلحق به عصفور وقطة وكلب وحصان.

ردت أمي، ولا حُرمت صوت أمي، لا غيّبه الله عني، وتسأل عني أكلت يما؟ شربت يما؟ أكلت الكمد والقهر يا أمي، شربت مراً لن يخرج من حلقي طعمه ما حييت، آه يا أمي..

‏حياتنا في غزّة، لو نظرنا إليها جيداً، نجد أنها كارثية، وسلسلة لا متناهية من محاولات التقبّل والتعايش. ثم نقنع أنفسنا بأن كل شيء سوف ينتهي قريباً. كما كل مرّة قريباً. هذه الـ"قريباً" مؤذية حين تصبح أياماً وأسابيع، يقولون "مكاسب الحرب تضاهي ويلاتها"، إلا في غزّة نخرج من حرب إلى أخرى.

ورد عن أحد شهود العيان: "كل ليلة نقول هذه الأشد، وفي كل مجزرة نظن ألا بشاعة تفوق ما نرى، ثم يأتي ما هو أفظع وأشنع وأوجع".

قبل قليل عطشت كثيراً من ابتلاع ريقي وأنا أشاهد الأخبار، قبل أن أشرب تذكّرت عائلتي، في أي لحظة سوف ينتهي الماء عندهم، أشرب؟ طيب هل شربت أمي؟ طيب كيف أشرب وعائلتي؟

"للمرة الثانية نجونا ولن ينتهي الأجل! نسأل الله حسن الختام والرحمة والمغفرة"، هذا ما قاله يوسف حبيبي ابن عمتي وحوله جدتي وعماتي وأبناؤهم وأحفادهم وأنسابهم، كلهم في مكان واحد.. عقلي لا يستوعب، عندما نقول لا توصف فهي أصدق لا توصف قيلت في الحياة!

تقدمت بطلب إجازة، تم رفضها، تم فصلي! لم أحضر منذ أسبوع، طيب وأهلي؟ طيب لا يشربون إلا الشحيح، لا يأكلون إلا الخبز، طيب في كل 60 ثانية حزام ناري! فظاعة لا أستطيع معها استيعاب عمل ولا واقع!

الفجيعة باتت تظهر في حديثنا وملامحنا وأصواتنا وحركاتنا، وما نحن إلا وعاء يمتلئ كل يوم بمزيد من المآسي، نعرفها تماماً ونشم رائحتها

"أنا سقعانة، بدي ماما بدي بابا"،  طفلة أُصيبت في قصف الاحتلال.

أسوأ خبر في حياتي يتكرر يومياً "قصف عنيف الآن على الشجاعية"، علاء أخي الذي نجى من مذبحة مشفى المعمداني بقوة الله ولطفه! يتصل بي بعد المذبحة وقد توقفت قدماه عن الحركة بسبب الخوف، أخبرني وهو يبكي "ضياء وينك يخو تعال"، هذه  "تعال" كسرتني، جعلت قلبي أشلاء وشلت حركتي وتفكيري حتى صار ينصب كيف أذهب الآن؟ كيف أدخل ضمن القصف معهم؟

غزّي يقول: "قبل قليل دفنا جثة ابن عمي الطفل باسم بدون رأس، ما زال رأسه تحت الأنقاض"!

كل مشهد 

كل صوت

كل حبة تراب

كل بناء مهدوم

كل قطعة لحم مرتمية في الأرجاء

كل شهيد

كل جسد

كل يد

كل عين

كل كفن

كل أم

كل إنسان!

كل ...

كل شيء له قصة، له سيرة حياة متكاملة، له روح تنبض!

الصحافي وائل دحدوح بعد استشهاد أفراد من عائلته: "بنتقموا منا في الأولاد؟ معلششششش"..

هذه دموع إنسانية وليست دموع جبن أو خوف أو خذلان.

الفجيعة باتت تظهر في حديثنا وملامحنا وأصواتنا وحركاتنا، وما نحن إلا وعاء يمتلئ كل يوم بمزيد من المآسي، نعرفها تماماً ونشم رائحتها، رائحة اللحم المحروق والجسد المسلوخ والأشلاء التي تتطاير على الشجر وبين البيوت، كلهم لهم قصص وأحلام وذكريات وأحباب، كلهم خناجر ساخنة قطعت نياط قلوبنا.

_وزارة الصحة: 

ارتفاع حصيلة العدوان الإسرائيلي إلى 10022 شهيداً، وإصابة 25408 مواطنين منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.

الاحتلال قتل 192 كادراً صحياً، ودمر 32 سيارة إسعاف، واستهدف 113 مؤسسة صحية، وأخرج  16مستشفى و32 مركز صحياً عن الخدمة. 2350 مفقوداً منذ بدء العدوان بينهم 1300 طفل.

أُنادم أهلي في خيالٍ خصب أن أعود وأعمّر معهم هذا الخراب، مع أنني أتحفظ على كلمة خراب، فقد باتت غزة رملّاً وأتربة وركاماً، إلا أننا نكرر معاً قولاً واحداً لطالما كرره أحمد حجازي "حنعمرها"، ذهبت أياد كثيرة كانت ستعمّر، ولكننا متمسكون بهذه الفكرة، لأن غزة عنيدة، تقول سيدة فلسطينية: "إحنا بنندك كل يوم، بيوتنا قرايبنا أهالينا كلهم راحوا تحت الأنقاض، ولكن إحنا إلنا رب كبير، هو إن شاء الله اعتمادنا عليه وإن شاء الله بإذن الله هو اللي حيخلصنا، وبنقول للعالم مهما عملوا ومهما سووا إحنا باقيين بإذن الله، ورسالتنا باقية، وإحنا على أرضنا مثبتين مما الشجر ينزرع مهما قلعوه يرجع ثاني".

مخطط سافل يمر عبر معبر دموي كبير لتحويل الحياة في غزة إلى مرادف الموت واستحالة البقاء، فحتى لو توقفت سيمفونية القصف يريدون أن نرى غزة مقبرة دُفنت معها كل أحلامنا، وأيامنا وأهالينا وأصدقائنا. يريدون أن ينزعوا محبتنا لها حتى نراها عدماً على الخريطة، هم لا يعرفون أنها بلد نشورنا، نموت هنا ونبعث من هنا، لا يدركون حقيقة أن هذه الخريطة هي ما يشكّل قلوبنا وليس العكس.