السردار راتب باشا!
عشنا نردّد ما قاله المؤرخ الإغريقي الشهير هيرودت، منذ 25 قرناً، بأنّ مصر هبة النيل، ونسينا أو تناسينا مع مرور القرون أنّ تلك الهبة لا بد لها من يدٍ تحميها، وعين تحرسها. وللحقيقة، فإنّ اليد الحامية، والعين الحارسة لم تتخلف أيّ منهما عن أداء دورها خلال تلك القرون بشكل دائم، بل ظلّتا تؤديان دورهما في بعض الأحايين على أفضل ما يكون.
وأذكر هنا نموذجاً فريداً من تلك النماذج التي أرى أنها أدّت دورها بالشكل الأمثل في حينها. نموذجنا هنا هو؛ السردار راتب باشا (1800 - 1878) في عهد الخديوي إسماعيل (والسردار يعني وزير الدفاع حالياً). فقد أرسله الخديوي إسماعيل عام 1876 قبل أن يصبح سردار، على رأس حملة لتأديب ملك الحبشة المدعو يوحنا؛ الذي أراد أن يتغوّل على الأراضي المصرية جنوب السودان، وقد منيت حينها القوات الحبشية بهزيمة ساحقة، بعد أن كانت قد انتصرت على أكثر من حملتين عسكريتين مصريتين سابقتين، وكانت الهزائم المصرية السابقة ناتجة عن قلّة عدد قوات الحملة، أو بسبب عدم المعرفة الكافية من قادة الحملة بالمناطق الجغرافية بأرض الحبشة.
وكان ملك الحبشة يوحنا هذا ماكراً، فبعد أن تعرضت قواته لخسائر فادحة، أرسل إلى راتب باشا يطلب الصلح، وحل النزاع بالتفاوض، ووافق راتب باشا على الصلح بعد أن وجد الخديوي إسماعيل يميل إلى الصلح والتفاوض.
حينذاك؛ طلبت مصر من يوحنا أن يُسلّم الجرحى المصريين الأسرى لديه، ليتم معالجتهم بالمستشفيات المصرية، بل وبحسن نية، طلبت مصر أيضاً معالجة الجرحى الأحباش في المستشفيات المصرية، ما جعل يوحنا يغتر ويشعر بالزهو؛ فيرفض الصلح إلا بعد انسحاب القوات المصرية من أراضي الحبشة بشكل تام.
قام راتب باشا بدوره على أكمل وجه، وأدّب من تُسوّل له نفسه التعدي على أرض مصر
وبالرغم من أن راتب باشا كان قد سحب القوات المصرية من مكان غير آمن بالأراضي الحبشية إلى مكان آخر أكثر أماناً، إلا أنّ هذا الفعل جعل يوحنا في صورة المنتصر، إذ إنه اعتبر أنّ فعل راتب باشا هذا رضوخ من القوات المصرية.
الغريب أنّ الخديوي إسماعيل، وبعد شهور قليلة، طلب عودة الحملة المصرية من الحبشة بقيادة راتب باشا؛ بسبب مشاركة القوات المصرية في الحرب العثمانية على صربيا، أما الأغرب فإن الجنود المصريين العائدين من الحبشة فُرضت عليهم رقابة شديدة حتى لا يبوحوا بأسرار المعركة إلى أي شخص مهما يكن.
المهم أن السردار راتب باشا قام بدوره على أكمل وجه، وأدّب من تُسوّل له نفسه التعدي على أرض مصر.
يبقى الآن أن أخبركم بأن راتب باشا هذا هو صاحب السوق الشهيرة بالإسكندرية، سوق راتب باشا بالمنشية، وهو أيضاً صاحب مدرسة راتب باشا برأس التين التي كانت قصراً له، حين تولى محافظاً للإسكندرية عام 1854. وكان قد تولى أيضاً رئاسة مجلس النواب في عهد الخديوي إسماعيل.
وأخيراً أخبركم بأن راتب باشا هو جد والد الفنان الراحل جميل راتب.. رحم الله الجميع.