"السبع موجات"... أملٌ ما على بحرِ غزّة
بسبعِ موجاتٍ من بحرِ غزَّة، يُبرَأُ المريضُ من مَرضه، وتحملُ المرأة التي تأخّر حملُها، وتزول أعراضُ الحَسد والسِّحرِ عن صاحبها. بسبعِ موجاتٍ لو تَضْرُب المريض على بحرِ غزَّةَ فقط، ستكفيه للشفاء. بهذهِ الأسطورةِ التي يتداولها الناس ويؤمنون بها، نُطلُّ على بحرِ غزةَ، بأمواجهِ وأسماكهِ، بقواربه ورماله وأبراج المراقبة الخشبيّة التي تتوزَّعُ على طول ساحله، فالمُخرجة والمُنتجة الأردنيّة، أسماء بسيسو (1984)، اختارت المدخل الأسطوريّ لفيلمها الذي عُرض للمرَّةِ الأولى مساء السابع والعشرين من حزيران/يونيو الماضي، في دارة الفنون بعمّان، بعد أن أُنتج بالكامل في سبتمبر/أيلول من العام المنصرم، لتبدأ بعدَ شهرٍ من ذلك، عمليات الإبادة المستمرة إلى الآن.
وبعد ما شهدته بعض المهرجانات السينمائيّة من تضامنٍ مع فلسطين ومقاطعةٍ لها، نأت المخرجة بنفسها عن المشاركة في أيّ مهرجانٍ لتختارَ عرض الفيلم لأوَّلِّ مرةٍ في بلدها الذي وُلِدت فيه، وكذلك في بلدها الذي عاشت فيه بعض حياتها كما تقول، أي بين الأردن وفلسطين.
بين صَيّادٍ ومنقذٍ بحريّ، وفتاةٍ تسعى لتحقيق أحلامها عبرَ هوايةِ التجديف، تمضي بنا قصّة الفيلم داخل حياة كلِّ منهما، بتوازٍ زمنيِّ وتقاربٍ في المكان، فكلاهما عقدا علاقةً وطيدة مع البحر، وكلاهما أخلصا له، المنقذ البحريِّ الذي يزاولُ مهنته في تتبِّع المتنزّهين على الساحل ويصدر إشاراتِ تحذيره للذين يتجاوزون خطّ السباحة المسموح، والفتاة التي تُوازن بين دراستها وتطمح لدخول الكليّة، وبين التدريب المستمرّ على التجديف بمعونةِ أبيها، وهو صيّاد أيضًا وأحد مجدّفي البحر.
كلّ شارعٍ، وكلّ بيتٍ، وكلّ عمارةٍ سكنيَّةٍ ظهرت في الفيلم، أصبحت الآن رُكامًا
ليسَ من سهولةٍ في تجاوز الأمواج، وليس من أمانٍ في النزولِ إلى الأعماقِ بلا خبرةٍ. الصبرُ والنباهةُ، ومن ثمَّ معرفة سرِّ الماء والتعامل معه، هو ما يكون رهينة النجاة في كلِّ مرة، وإن تجاوزها الصيّاد أو المجدِّفُ، فإنَّه بالتأكيد لن يتجاوز دوريّات الصهاينة التي تظهرُ عادةً أمامهم موجِّهةً السلاح بالطريقة التي تُوحي بأنَّهم سيطلقون النار برمشةِ جفنٍ، وهذا ما يستدعي المناورة والاختفاء أمام المفترسين الذين لن يتأخروا في إطلاقِ رصاصهم المطاطيّ الذي سيملأُ جسد الصياد دُمَلًا، ولرُبّما يجعله عاجزًا عن العودةِ إلى اليابسة.
الحياة بالنسبة لفتاةٍ تتعلَّم ركوب القارب وتحاول التجديف، ليست بالهيِّنة، لم يعتد الناس على هذا المشهد، البحرُ له رجاله، هكذا فقط نفهم من نظرةِ الآخرين، لكنَّ الفتاة لها كلمةٌ أخرى، البحر له سيِّداتهُ أيضًا، أثبتت هذا حين ظلَّت تتعلَّمُ التجديف وتُدرِّبُ أخريات كذلك، فهي المُدرِّبة والمُتدرِّبة، ولأنَّ هذا المشهد ليسَ مألوفًا، صارت حصص تدريبها منذ ساعات الفجر الأولى، وتنتهي منه قبل أن يصل أحد إلى البحر.
لا يختفي الأمل في كلِّ مشاهدِ الفيلم كما لا يختفي الماء أيضا
التجوال في غزَّة هو جانبٌ آخر من الفيلم الذي نقضي أغلب الوقت فيه مع تلاطم الموج بالقوارب، والمشاهد التي سننتقل بها مع بطلي الفيلم، ستدخلنا إلى ما خلف باب البيت، أي العائلة وعلاقة أفرادها ببعض، أفراحها وأعراسها، نشاطاتها المجتمعية وطبيعة العمل والتنقّل، هذه المشاهد كلّها تنطوي على المدينة العامرة، المدينة التي تنبض بالحياة رغمَ أسوارها وحصارها، وهي ما تجعلنا أمام مقارنةِ الأمس باليوم، فما بين مشاهد الفيلم ومشاهد الحرب التي تلت تصويره، تنعدمُ المدينة وتختفي كلّ تفاصيلها، ولا شكَّ في أنّ كلَّ شارعٍ، وكلّ بيتٍ، وكلّ عمارةٍ سكنيَّةٍ ظهرت في الفيلم، أصبحت الآن رُكامًا، ناهيكَ بإمكانيّة معرفةِ أبطال الفيلم، وما إذا لا يزالون على قيد الحياة أم لا.
أُنتج الفيلم قبل شهرٍ من بدء العدوان الوحشيّ، أيّ كان على تماسٍ مباشرٍ مع الحياة قُبيل الحرب، ليصبح بعد مرور تلك الأشهر العصيبة، شهادةً لا على حياة فردين من أفراد المدينة، بل شهادةً على كلِّ المكانِ، وبما فيه.
للماء معنى الحياة، وللبحرِ معنى وجود البحّارة، وفيه تتجلّى حياتهم اليوميّة، وبهذا التجلّي، يظهر الأمل الخفيّ الذي يُجدِّفُ من أجله المُجدِّفونَ، ويركضُ إليه المنقذون، ويعيشُ لأجله بُناة قصور الرّمل على الساحلِ وصيّادو السمك وصانعو القوارب، لا يختفي الأمل في كلِّ المشاهدِ كما لا يختفي الماء، ومثلما حقَّقت الفتاة حُلمها في الفوز ببطولة التجديف الأولى، لتجتمعَ مع بطل الفيلم الآخر على الساحلِ، في مشهدٍ يُوحي بالنصر أيًا كان معناه رغم الظروف القاهرة، حقَّقت المخرجة حلمها في إنتاج فيلمٍ عن البحر، مسقط رأس أبيها الذي تمنّى منها ذلك، وما كان عليها إلا أن فعلت.