الزلزال السوري بين مآسي القدر وشرور البشر
ربما كانت مشكلة الشر، هي إحدى أهم المسائل التي أثارت الفكر الفلسفي والديني والأخلاقي، على حدٍّ سواء. وتنوس النظريات والفلسفات التي تتناول مسألة الشر بين قطبين. هناك قطبٌ، يرى أنّ الشر ليس شرًّا إلا إذا كان ناتجًا عن إرادةٍ واعيةٍ وحرّةٍ، كان يمكن وينبغي لها ألا تكون. ويرى أنصار هذا الاتجاه ضرورة التمييز بين المأساة التي تصيبنا نتيجة لكوارث طبيعيةٍ كالزلازل، والفيضانات، والعواصف، والأوبئة.. إلخ، بوصفها ضروراتٍ طبيعيةً غير مقصودةٍ ولا مترافقةٍ مع سوء نيةٍ من جهةٍ، والشرور التي يقوم بها الإنسان بوعي وقصدٍ وحريةٍ من جهةٍ أخرى.
فالشرّ خاصية إنسانية بامتياز، لأنه يقتضي الحرية، والنية أو القصد، وإمكانية ألا يكون، وامتلاك فاعله خيارات متعدّدة حقيقية. أما مع الكوارث الطبيعية، فنحن أمام مأساة وضرورة طبيعية لا يتحكّم البشر فيها، أي أمام قدر لا حول ولا قوة لنا في خصوصه.
هناك قطب آخر يعتبر الشر مأساة، لأنّه جزء من الطبيعة النفسية للبشر، ولأنه جذري أو متأصل في نفوس كلّ منهم بالضرورة، أو لأنه نتاج حتميّ للبنى والأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يعيشون فيها. وفي هذه الحالة، يبدو أنه ليس ثمّة اختلاف (كبير) بين جذرية الشر، عند إيمانويل كانط، وتفاهته، عند حنّة أرندت.
لم يكن الخراب والدمار الذي أصاب الكثير من المدن والقرى السورية نتيجةً للزلزال يختلف كثيرًا عن تلك التي أصابت مدنًا وقرى سوريةً أخرى نتيجة للقصف الأسدي أو البوتيني
يميل البشر إلى التعاطف والتعاضد في ما بينهم، عندما يتعرّضون إلى كارثة طبيعية، في حين أنّ الشرور التي يمارسها البشر ضد بعضهم البعض تفضي غالبا إلى تشتيت شملهم، وضرب وحدتهم، وخلق العداوات والضغائن في ما بينهم. كما يميل البشر إلى الإذعان لمشيئة الله أو القدر في حال الكوارث الطبيعية، في حين أنهم يميلون إلى رفض الشرور الإنسانية التي تصيبهم والتنديد بها وبفاعلها، وإلى محاولة معاقبته ومنعه من تكرار اقترافها.
هذا ما حصل بعد الزلزال الذي ضرب تركيا وسورية مؤخراً، حيث أظهرت معظم ردود الفعل التعاطف، النظري و/أو العملي، مع الضحايا في البلدين، على الرغم من حالة الاستقطاب السياسي وغير السياسي المهيمنة غالباً في كلا البلدين وتجاههما أيضاً. في المقابل، بدا الانقسام واضحاً، حيال ردود الفعل السياسية على ذلك الزلزال.
الزلزال الذي أصاب سورية وتركيا "قدر مأساويّ أحمق الخطى، سحقت خطاهُ هامات الكثيرين"، لكن مصير ضحايا كثيرين لم يكن ناتجا عن قدر لا حول ولا قوة للإنسان أمامه فحسب، بل كان ناتجا أيضا عن أفعال بشرية سياسية كان يمكن وينبغي لها ألا تكون: كامتناع بعض الأطراف عن تقديم المساعدة للضحايا، ولمن يحاولون مساعدة الضحايا، أو عرقلة تلك المساعدة لمآرب سياسية ومصلحية ضيقة.
خلال العقد الأخير، قام النظام الأسدي بقصف الكثير من المدن والقرى السورية بالبراميل والصواريخ والقذائف التي لم يكن فتكها بالحجر والبشر من السوريين والسوريات، أقلّ سوءا من فتك الزلزال الأخير بهم. فلم يكن الخراب والدمار الذي أصاب الكثير من المدن والقرى السورية نتيجة للزلزال يختلف كثيرا عن تلك التي أصابت مدنا وقرى سورية أخرى نتيجة للقصف الأسدي أو البوتيني.
يصعب التفلسف في زمن الكوارث والأزمات، لأسباب كثيرة، منها حاجة التفلسف والتعامل مع الفلسفة إلى العقل البارد عموماً، في حين أن التفاعلات أو الانفعالات الحارة تكون هي المهيمنة في الزمن المذكور
بالاستناد إلى نظرية المؤرخ البريطاني، أرنولد توينبي، عن التحدّي والاستجابة، يمكن القول إنّ أوقات الأزمات والكوارث عموماً تمثل تحديّاً يسهم في إظهار أو خلق أفضل ما لدى البشر من استجاباتٍ، وأسوأ ما لديهم منها، في الوقت نفسه. وإذا كانت استجابة النظام الأسدي للزلزال الأخير تجسّد، على الأرجح، أسوأ ما حصل أو يمكن أن يحصل في مثل هذه السياقات، فإنّ اندفاع عدد كبير من السوريات والسوريين إلى الإسهام في جهود الإنقاذ ومساعدة المتضررين في مبادرات فردية وجماعية مختلفة ومتنوعة، قد مثّلت أفضل ما يمكن فعله وتصوّره في مثل هذه السياقات. ومرة أخرى، خطفت منظمة الدفاع المدني السوري، المعروفة باسم "الخوذ البيضاء"، الأضواء والأنظار بإسهامها الإيجابي الكبير في هذا الخصوص، وربما كان للخبرة الكبيرة التي اكتسبتها تلك المنظمة في التعامل مع قصف النظام الأسدي، وضحايا ذلك القصف، دور مهمّ في الإسهام البارز المذكور.
أظهر الزلزال الأخير، أنّه كان يمكن للعلاقة بين السوريين/ات عموما، أن تكون أفضل أو أقل سوءا بكثير، لو أنّ ما واجهوه منذ عقد أو عقود كان كارثة طبيعية، وليس شرّا أسديّا، غير طبيعيّ.
كان هناك إهمال وتجاهل كبير للضحايا السوريين/ات في الأيام الأولى التي تلت الزلزال، ويبيّن ذلك الإهمال أنّ عصرنا هو عصر الدولة بامتياز. ولم يكن هناك دولة تأخذ على عاتقها جديّا العناية بالضحايا السوريين/ات عموما أو خصوصا. فالدولة السورية أصبحت فاشلة، وعاجزة، وفاسدة، لدرجة جعلتها عبئاً على السوريين/ات، بدلًا من أن تكون عونا أو سندا لهم. والدولة التركية أعطت الأولوية لأصحاب البيت/ الأنصار، ولم يكن في حسبانها أو في توّجهاتها أن تعامل الضيوف المهاجرين، أو الجيران التابعين، المعاملة ذاتها، رغم أنّ محنتهم ليست أقل سوءا أو كارثية من محنة الضحايا الأتراك.
قد لا يكون الموت الشخصي للإنسان هو الموت الأسوأ والمأساة الأكبر، وإنما موت من يحب
قد يكون معقولاً تبنّي الحكمة الرواقية "إن لم يكن ما تريد فأرد ما يكن"، عندما نكون أمام قدر لا مفرّ منه، لكن الأمر ليس كذلك حين نواجه الشرور البشرية، وحين يكون بإمكاننا الإسهام (الجزئي) في تحديد مصيرنا، في مواجهة تلك الشرور، وبالتكامل مع القدر المذكور، وليس بالتعارض معه. وبدا ذلك واضحا في مواجهة السوريين والسوريات لزلزال الشرور الأسدية ولزلزال المآسي الطبيعية.
يصعب التفلسف أو التعامل مع الفلسفة في زمن الكوارث والأزمات، لأسباب كثيرة، منها حاجة التفلسف والتعامل مع الفلسفة إلى العقل البارد عموماً، في حين أن التفاعلات أو الانفعالات الحارة تكون هي المهيمنة في الزمن المذكور. ومع ذلك، رأى كثيرون، مع ألان دو بوتون، أنّ الفلسفة يمكن أن تقدّم بعض العزاءات، في شأن الفقر والإحباط والعجز الجنسي والثقافي والفكري.. إلخ. في المقابل، وجد ريتشارد رورتي بعض العزاء أو الراحة في بعض قصائد الشعر، ولم يجد في الفلسفة التي أنتجها أو قرأها ما يمكن أن يكون مفيداً أو معيناً له، عندما علم بإصابته بالسرطان، وبأنّ مواجهته مع الموت قد أصبحت أقرب من أي وقت مضى.
من منظور ما، قد يكون الموت هو الحدث الرئيس والمأساة الأسوأ في حياة الإنسان، فهو ليس مجرّد نهاية، بل النهاية، وليس مجرّد نهاية ممكنة، بل نهاية حتمية لكلّ ممكناته. لكن قد لا يكون الموت الشخصي للإنسان هو الموت الأسوأ والمأساة الأكبر، وإنما موت من يحب. كما أنه ليس نادرا، أن تصبح الحياة أكثر مأساوية من الموت ذاته، ويصدق ذلك، تحديدا أو خصوصا، في بعض الحالات التي يواجه فيها الإنسان بعض الشرور الوحشية. وبهذا المعنى، وفي ذلك السياق، يكون الشر أكثر مأسويةً من المأساة ذاتها، ويكون تقرير المصير أصعب من مواجهة القدر ذاته.