الرقم السري

21 ابريل 2023
+ الخط -

المشهد السوريالي عند صناديق الدفع في السوبرماركت اللبناني لا سابقة له في أي مكان في العالم. ولا شك أنّ بلدنا الحبيب أصبح "بلد سوابق". فهو المكان الأوّل الذي تسرق فيه المصارف حرفياً أموال المودعين، وهو المكان الأوّل الذي يعلن فيه عن الأسعار بعملة بلد آخر. هو البلد الأول الذي تقبض فيه قوى الأمن الوطنية وعناصر الجيش "مساعدات" نقدية بالدولار من سفيرة أجنبية برعاية الحكومة "الوطنية" إن جاز وصفها كذلك. نحن أيضاً البلد الأول في العالم الذي يسيّر مصرفه المركزي وسياسته النقدية حاكم مدّعى عليه في أكثر من دولة بجرم الاختلاس وتبييض الأموال، ولا أحد استطاع حتى اليوم أن "يقتلعه" من منصبه أو أن يحاسبه. 

بلدنا الجميل، هو ربما أول بلد تسير فيه شؤون البلاد "عادي" لشهور، وأحياناً لسنوات "على ما يقدر الله"، من دون رئيس للجمهورية أو حكومة فاعلة، أو حتى ميزانية، ما يطرح السؤال عن ضرورة وجود هؤلاء أصلاً.

أما المشهد السوريالي عند صندوق المحاسبة في السوبرماركت فهو أيضاً، وعلى حد علمي، المكان الأول الذي تسألك فيه موظفة الصندوق عن رقمك السرّي لبطاقتك المصرفية، فتعلنه أنت هكذا على الملأ وبلامبالاة. لا بل إنه أحيانا لا تسمعك الموظفة من المرّة الأولى فترفع صوتك على مداه بالرقم "السرّي"، ليسمع جميع الزبائن المنتظرين خلفك أن يحاسبوا. 

فكما تعلمون، الرقم السرّي هو عادة... سرّي. لا بل إنه سرّي للغاية. يعطيك إياه المصرف عادة داخل مظروف مغلق لا يفتحه غيرك، ويطلبون إليك أن لا تدوّنه في مكان يتاح للآخرين أن يصلوا إليه. وحين يقف الناس أمام الصراف الآلي لسحب أموالهم، يدارون أيديهم حين يطبعون هذا الرقم. لا بل إنّ هندسة شكل صناديق السحب الآلي مصمّمة لتمنع الآخرين، كالواقفين خلفك أو إلى جانبك من التعرّف إلى هذا الرقم السري الذي لو علم اللص به لسرق أموالك المودعة في المصرف، هذا طبعاً على اعتبار أنّ المصرف نفسه لن يسرقك.

وإن كان سبب اللامبالاة هو معرفة الجميع بضآلة قيمة النقد اللبناني اليوم، إلا أنّ أصل الحكاية في الواقع أغرب من هذا السلوك نفسه. 

لبنان هو ربما أول بلد تسير فيه شؤون البلاد "عادي" لشهور، وأحياناً لسنوات "على ما يقدر الله"، من دون رئيس للجمهورية أو حكومة فاعلة 

فبعد حجز أموال المودعين في المصارف اللبنانية بحجة انتفاضة 17 أكتوبر/ تشرين الأول من العام 2019، أقفلت المصارف أبوابها، وأعلنت أنها لا تستطيع أن تسمح للمودعين بسحب أموالهم، خاصة بالعملة الأجنبية، إلا تحت سقف محدّد. هكذا، أصدر حاكم مصرف لبنان تعميماً رقمه 158، يسمح للمودع بالعملة الأجنبية أن يسحب من وديعته 400 دولار شهرياً بالدولار "الفريش"، أي النقدي، مقابل أن "يرضى" بسحب مبلغ مماثل من وديعته بالليرة، لكن على سعر صرف حدّده الحاكم باثني عشر ألف ليرة، في حين أنّ سعر الصرف في السوق.. مائة ألف ليرة لكلّ دولار نقدي. 

بمعنى آخر أن الأربعمئة دولار التي ستصرف بالليرة اللبنانية (سمّاها اللبنانيون "لولار" بمزج بين لفظتي ليرة ودولار) لا تتجاوز قيمتها في الحقيقة ستون دولاراً فقط لا غير. ويعني أيضاً أنّ المصرف يبتزك بتذويب نصف وديعتك بالدولار مقابل أن يفرج عن نصفها الآخر!

حسناً، هل استطعتم المتابعة حتى الآن؟ أعلم أنها عملية معقدة. لكن صبراً، لم ينته الأمر بعد: فنصف الأربعمئة دولار المصروفة بالليرة اللبنانية يُدفع نقداً للمودع، أما نصفها الآخر، فعلى شكل بطاقة إلكترونية غير صالحة للاستعمال إلا في لبنان. 

وبما أنها بالليرة فقد امتنعت غالبية المؤسسات والشركات، إضافة للدكاكين، أي غالبية الأماكن التي يضطر الإنسان للإنفاق فيها، عن قبول الدفع بهذه البطاقة، ما عدا بعض المخازن التي يكاد عددها لا يتجاوز أصابع اليدين، والتي اشترطت دفع نصف الفاتورة بالبطاقة مقابل نصفها الآخر نقداً. 

هكذا، تصل إلى الصندوق، فتقول للموظفة إنك تريد أن تدفع حسب قاعدة "نصف كاش/نصف بطاقة". وبما أنّ السوبرماركت لا يملك إلا آلة دفع إلكترونية واحدة (لا تنسوا أنّ البلد مفلس) تأخذ الموظفة البطاقة إلى صندوق بعيد مجهّز بالآلة. وبعد أن تطبع الفاتورة تسألك، وهي بعيدة عنك خمسة أمتار، وبأعلى صوتها "ما هو رقمك السري؟"، فتردّ أنت بصوت عال لكي تسمعه "7489" مثلاً!

اللامبالاة بسرّية رقم البطاقة اللبنانية الإلكترونية آت، إضافة لوعي الجميع ضآلة قيمة الليرة، من استحالة استخدامها لشراء الدولارات "الفريش"

ويحدث أن لا تسمعك الموظفة من المرة الأولى، فتطلب منك أن ترفع صوتك، فترفعه، بكلّ ممنونية! كما يحدث أن تنقطع شبكة الإنترنت، لانقطاع الكهرباء، أو بسبب إضراب موظفي الاتصالات، فتطلب موظفة الصندوق منك أن تنتظر ليعود الخط، ثم تسألك، مرّة إضافية أن تعيد رقمك السري على مسامعها، فتعيده مرّة بعد أخرى حتى يتم الدفع. 

المشهد سوريالي بالطبع، وكوميدي. وما زلت أذكر أنه في إحدى المرّات استمر خط الإنترنت بالانقطاع لأسباب تتعلق بإضراب موظفي قطاع الاتصالات، ولما سألتني الموظفة أن أكرّر عليها "رقمي السري" صاح زبون خلفي وقد أتعبه الانتظار برقمي الذي حفظه بعد أن كرّرته عليها عدّة مرات. ثم نظر إليّ وضحك، فضحكت، ثم ضحك صف الزبائن الواقفين جميعاً.

في أي بلد يصيح الزبون بالرقم السرّي لبطاقته المصرفية بأعلى صوته؟ إنها سابقة لا شك. 

ولا شك أنّ اللامبالاة بسرّية رقم البطاقة اللبنانية الإلكترونية آت، إضافة لوعي الجميع ضآلة قيمة الليرة، من استحالة استخدامها لشراء الدولارات "الفريش"، وهي الرياضة الوطنية التي يتعاطاها الشعب اللبناني هذين اليومين، أي المضاربة الجماعية على عملة بلدنا الحبيب.

يحب اللبنانيون أن يكونوا الأوائل في كلّ شيء، ويتباهون بذلك. وهم يحبّون كتاب غينيس و"الأرض التي يمشي عليها"، لكن الإبداعات المصرفية والقانونية والحياتية التي "أنجزوها" في السنوات الأخيرة تجعلهم يستحقون "غينيساً" خاصاً بهم. وبالحديث عن "غينيس"، في تعريف هذه الموسوعة تقول الدعاية "الموقع الرسمي للأرقام القياسية والإنجازات، كن مذهلاً بطريقة رسمية". يا الهي؟ أصلاً من يمكن له أن ينافسنا؟ 

ضحى شمس
ضحى شمس
كاتبة وصحافية لبنانية.

مدونات أخرى