الرجال من "المريخ" والنساء من "بلوتون" الصغير والأبعد
الرجال من يتحدثون... يتحدثون في كلّ شيء، وعن كلّ شيء! بينما تصمت النساء في الغالب، وفي صمتهن تلك النظرة الملغزة المستفزة التي تعني أنّ هناك الكثير الذي لم يقله الرجال، ولن يستطيعوا قوله أبداً.
لا يستسلم الرجل، فيتقمص فم الأنثى، ويواصل الحديث بصوتٍ جهوري يصل إلى سابع جار.
النساء مخادعات للغاية، وهنّ صامتات، إنهن يحجبن عنّا قارة كاملة من العسل، من النميمة، من النكات النسائية المثيرة، ومن الدسائس. يفضّلن الصمت ببراعة حكيم أمام عامّة ثرثارين، يفعلن ذلك ببراعة معارض سياسي خطير وسط المتآمرين والوشاة والبلطجية. كلّ ما يصلنا منهن هو تلك الابتسامة الصامتة المستفزة التي تعني التحدّي أكثر مما تعني الاستسلام. ابتسامة مدهونة بالزبدة ليس للإغراء، بل لينزلق فوقها كلّ ما يقوله الرجال ويسقط أرضاً قبل أن يصل إلى الأذن.
يتطوّع الرجال في الغالب لقول كلّ شيء، للحديث عن الله، عن الشيطان، السياسة، كرة القدم، أحوال الطقس وأحوال البورصة، الطب البديل، صناعة الأبراج والحظوظ العاثرة والمصائر، الكواكب والنجوم المندثرة، إلخ.
النساء في كلّ العالم متواطئات على ترك كوكبهنّ جميلاً ولمّاعاً وبعيداً وغامضاً وصامتاً
الأخطر من كلّ ذلك، أنّ الرجال يتطوّعون (دون أن يطلب منهم أحد ذلك) كي يحدثونا عن النساء، كي يعرّفوا لنا النساء، كي يحلّلوا لنا نفسيات النساء، كي يشرحوا لنا اللذات التسع والتسعين التي تشعر بها المرأة في أثناء الجماع، مزاج المرأة المتقلّب في أثناء الحيض والحمل والولادة، المكان الصحيح لأورغازم المرأة، كيف يجب أن تلبس المرأة، كيف يجب أن تتكلم وكيف يجب أن تضحك أمام الغرباء...
كلّ هذا والنساء صامتات كالقضاة وسط شهود الزور، لا ينطقن بشيء ولا يبحن بأسرارهنّ الداخلية الحميمية كي نعرفها منهنّ وليس من الرجال. الرجال الذين لم يسبق لهم أبداً أن كانوا نساء كي يحدثونا عن النساء.
أكثر من ذلك، الكتاب الأكثر شهرة وذيوعاً عن المرأة وعن عالمها وأسرارها وعن كونها كوكباً مختلفاً مستقلاً عن عالم الرجال، الكتاب الوحيد الذي من المفترض فيه أنه سيعلمنا عن النساء ما لا نعلمه، كتبه رجل عوض أن تكتبه امرأة، كتاب "الرجال من المريخ والنساء من الزهرة"، مؤلفه رجل اسمه دون أي أنوثة تذكر، جون غراي. كأنه ترك المريخ وهاجر إلى الزهرة في مكوك فضائي ليستكشفها وعاد بالحكمة والأسرار. كتاب رجولي بامتياز، أستطيع أن أحدس ذلك دون حتى أن أقرأه، وحتى إن اندهشت نساء كثيرات أنّ هذا المؤلف يعرف حقاً نفسياتهن وعالمهن السرّي الماسوني الخفي، فهذا لا يدهشني صراحة. إنه لن يعرف سوى السطح، ولن يستطيع أبداً وضع لسان أنثى داخل فمه للحديث عنها. أتخيّل شعراً نابتاً في ساقي جون غراي، وهو يكتب عن النساء، أتخيّل إبطيه وعجيزته الضامرة، أتخيّل نظرته الشبيهة بنظرة ثعلب راشد إلى قطيع من الغزلان عند النبع، وأقارن ذلك بنظرة مراهقة تمضغ العلكة عند النافذة وتسهو دون أن يعرف جون غراي نفسه، ولا غيره، أين تسهو ولا ماذا ترى في سهوها حيث إنها هي نفسها لا تعرف.
يتحدث الرجال في كلّ شيء، بينما تظلّ النساء صامتات كالمافيا التي تعاهدت سراً في كهف أو في قبو عمارة الكون على الصمت والسرية
كان عليه ببساطة القول إنّ الرجال من المريخ بينما النساء من كوكب بلوتون الصغير جداً والأبعد. هذا مناسب أكثر، حيث إننا نجهل كلّ شيء عن كوكب بلوتون. كان حرياً به أن يتحدث في كتابه فقط عن كوكب المريخ، وأن يترك كوكب النساء خارج المجرّة، باعتباره كوكباً غير مكتشف إلى حد الآن، كوكباً بعيداً وملتبساً وصامتاً وجاهزاً دوماً للانفجار، والنساء متواطئات باستمرار في كلّ العالم على تركه كوكباً جميلاً ولمّاعاً وبعيداً وغامضاً وصامتاً. كوكب نراه، فنعتقد أننا رأيناه ولمسناه وفهمناه. بينما يأتي الفيزيائيون ليؤكدوا لنا عكس ذلك، يخبروننا أننا لا نرى سوى موقعه الذي يغيّره باستمرار كالنجوم منذ آلاف السنين، لا نرى سوى شبحه عوض حقيقته.
يتحدث الرجال في كلّ شيء، بينما تظلّ النساء صامتات كالمافيا التي تعاهدت سراً في كهف أو في قبو عمارة الكون على الصمت والسرية. لا واحدة منهن تتطوّع لتخبرنا من هنّ النساء، ما علاقة المرأة بجسدها، ماذا تحسّ في أثناء الجماع، في أثناء الدورة الشهرية، في أثناء الحمل، في الصباح عندما تستيقظ، حين يعضّ رضيعها ثديها، حين تكحّ، حين تعطس، حين تلمس فخذها، فتجد أنه ناعم كالمكائد، حين تمشط شعرها، حين يلمس ماء الدوش الساخن أعماقها، حين تحدّق بين فخذيها فلا تجد شيئاً زائداً، حين ترى الجبال والسهول والهضاب والطيور، حين تحلم، حين تثور، حين تبكي، حين تقهقه، حين تنتقم، حين تستيقظ وتحدّق في الفراغ، حين تحب، حين تتنهد، وخصوصاً حين ترى الذهب والشوكولاته.
لا واحدة تتطوّع لتعرّفنا بالنساء من الداخل وليس من الخارج، من الأعماق الصامتة العذراء، كي نقترب منهن أخيراً دون حذر، دون خوف، دون تهوّر، دون جهل، نحدّق فيهن، نلمسهن، كي نتأكد أنهنّ حقيقيات، وأنهنّ من هذا الكوكب مثلنا، من كوكب الأرض وليس من الزهرة ولا من زحل، كالأزهار، كالنحل، كالفراشات، كالفاكهة الناضجة، كالعصافير، وكالعقارب الصفراء الجميلة...