الراديو... رمز الأحلام الوردية
اقتنى أهلي جهاز راديو لا أزال أحتفظ به حتى الآن، وقد وضعته في منزلي الذي هجرته، وانفصلت لاحقاً عن بيت أهلي الذي عشت فيه حوالي ثلاثين عاماً قبل ارتباطي بزوجة وأطفال.
ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالراديو من خلال إقبالي على سماع برامج معينة، كان أوّلها الاستماع إلى صوت المقرئ الشيخ عبد الباسط عبد الصمد صاحب الحنجرة الذهبية عبر إذاعة القاهرة. كنت أتابع قراءات المقرئين، وما زلت أذكر أنّي كنت أحب منهم عبد الصمد. وبعدما أصبح الراديو جزءاً مني، اكتشفت صوت الأديب طه حسين وأحاديثه الثقافية التي أثّرت فيّ بشكل عميق، ليس لأن صوته كان ممتلئاً دافئاً وآسراً وحميماً وكأنه يَصبّ الكلمات والمعاني في قلوب المستمعين ولا يقولها فحسب، وإنما أيضاً لأن روايته - السيرة "الأيام" كانت قد أصبحت جزءاً من تكويني الثقافي حين قرأتها وأخذت أعيد قراءتها.
ويظل هذا الصوت يأتيني كلما قرأت كُتب طه حسين حتى بعد سنوات طويلة من رحيله عن عالمنا، ساعياً لأن أتعلم ولو جزءاً من درس الجلد والصبر العظيم لهذا المثقف الفذ الذي حين فقد بصره بسبب التخلف والعادات البالية والجهل استبدله بإرادة لا تلين، وأخذ يرتقي بإصرار في مدارج المعرفة والريادة في مجالات شتى.
ظلّ الراديو صديقاً حميماً لي ولم يفقد سحره مطلقاً حتى بعد ظهور التلفزيون والتقدم الكبير الذي عرفته الفضائيات المتنافسة التي تبث من دون انقطاع.
فعبر الراديو شكلت صور طفولتي الخاصة بي، وترجمت في الخيال كل الحكايات والمسلسلات التي تابعتها على موجاته. كان المتحدثون ينطقون وأنا أصنع الصور على هواي. نساء ورجال سمر وبيض طيبون ومتوحشون أبرياء ومجرمون يتصارع الخير والشر في داخلهم، بل لم يكن نادراً أن أتدخل في صياغة الحكايات نفسها، حتى شرعت ذات مرّة في كتابة دراما إذاعية، ثم انشغلت عنها من دون أن أتوقف مطلقاً عن تشكيل صوري..
وحتى الآن ما زلت أفضل كثيراً أن أتابع ما يجري في العالم عبر الراديو، مفضلاً إياه على التلفزيون، على الرغم من أنه حجز مكانته بقوة لدى الناس، وأستمع للبرامج الثقافية والدرامية الإذاعية التي تشدّني أكثر مما أتابع التلفزيون الذي أجده متطفلاً على صوري، لأنه يُقدم الجاهز منها فيفسد عليَّ شطحات خيالي.
أعرف أناساً يقضون نهاراتهم كلها أمام التلفزيون، الذي لا يمكن أن يوفّر لهم القدر المطلوب من العلم والثقافة والعمق المعرفي..
في ما بعد، أخذت إذاعة صوت العرب تذيع بعض روايات مسلسلة في حلقات، وكانت فرحتي عارمة لي ولإخوتي جميعاً أن نتحلق حول هذه الآلة العجيبة التي كانت تنقل لنا أصوات الدنيا كلها، ونختلف أحياناً لرغبة كل منا في برنامج يختلف عن ذاك الذي يريد أن يسمعه أخ آخر.
وفي تلك الفترة أيضاً، تعلقت بالاستماع إلى المطربين، وكنت أحفظ كثيراً من أغانيهم في مطلع شبابي، وكنت أردد هذه الأغاني ويطالبني أصدقاء ومعارف بالغناء. وكان في بيتنا راديو من الحجم الكبير، ولم يكن من هذه الأحجام الصغيرة التي تتناقلها الأيدي في هذه الأيام. لذلك كان من الصعب نقله، لكني كنت أحبّه وأتلمّس صندوقه الخشبي وأنا أستمع إلى ما يرضيني.
وعندما بدأ الراديو يغزو البيوت والدور ويكسب معجبين يوماً بعد يوم، حينها وفر والدي المال لاقتناء أوّل راديو لنا في المنزل. فالوالد -رحمه الله- كان محبّاً وعاشقاً للاستماع إلى تلاوة القرآن الكريم كونه رجلا محبا لدينه ويوليه اهتماماً خاصاً، فضلاً عن الاستماع إلى الأخبار والبرامج الإذاعية الأخرى.
لم أكن أفضل الاختلاء بالراديو والسماع منفرداً، خصوصاً أنه كان من الصعب نقل ذلك الصندوق الخشبي. كنت أفضّل على العموم أن يستمع معي من يستطيع الاستماع من أهلي حتى أنّني كنتُ أرتضي وأتلذذ أن أسمع والدتي وهي تتأوّه لصوت أم كلثوم.
جرّبت في أكثر من مرّة أن أجعل الراديو ذاك يتكلم بعدما سكت عمراً طويلاً، لكن يبدو أنّ البطاريات فيه كانت مستنفَدة، أو أن عطلاً ما طرأ على الآلة، إلّا أنّه سيبقى في منزلي ذكرى لأيام جميلة من حداثتي كانت توفر لي متعة جميلة.
أعتقدُ أنَّ الراديو (أي الاذاعة) يؤمّن للنص الأدبي ما لا يمكن للتلفزيون أن يؤمّنه من حيث التعبير الهادئ المطول عن المشاعر، لأن الصورة تعجز عن استيعاب طاقات الصوت.
مشكلة الآلات الحديثة المتطوّرة في أنّها تحاول أن تجعل من الإنسان آلة مثلها، لذلك يطلب المرء في كثير من الأحيان أن يعود إلى تقاليد قديمة تحرّره من سلطة هذه الآلة الخانقة.
وأؤكد أن التلفزيون لن يستطيع إلغاء الراديو مهما تطورت البرامج. ولو كان الإلغاء وارداً لأغلقت الحكومات جميع الإذاعات مكتفية بالتلفزيون، في حين أن هناك بعض البلدان المتأخرة التي لا يسمح للتلفزيون فيها أن يأخذ مداه في التطور، تظل فيها الإذاعة أقدر على النفاذ إلى أسماع الناس.
يحصل في كثير من الأحيان أن أهرب من ضجيج الراديو والتلفزيون، فهذا الضجيج قد يضجرني أو يزعجني، فألجأ إلى الكتاب الذي يبقى "خير جليس في الأنام كتاب"، كما قال أسلافنا.
فالراديو لا يمكن الاستغناء عنه مهما تطورت وسائل الاتصالات، شأنه في ذلك شأن الكتاب الذي تحاول وسائل الإعلام الحديثة أن تلغيه لصالحها، لكنها لا تنجح في ذلك. فالكتاب يبقى ذخيرة مهمّة يحتاج إليها الإنسان كلما أراد التعمّق في معرفة الأفكار. الحنين إلى الراديو مرتبط بالحنين إلى الأيّام الماضية التي عرفنا فيها الراديو أوّل ما عرفناه.
وعلى الرغم من أن الأسطوانة أو الفيديو، أو ما بات يعرف اليوم بالنت وبمواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من قنوات الاتصال السريعة المختلفة، والتكنولوجيا المرعبة التي صارت تضع خطواتها أمام الإنسان لا خلفه، وتقرّب له كل بعيد، كل ذلك لا يمكن له أن يغني عن العودة إلى الراديو. فالراديو هو الأصل. ففي زمن الراديو كان الفنان على ذوق رفيع، أما اليوم فالأمر مختلف، وإذا أراد الإنسان أن يلتمس بعض التسلية فإنه يلجأ إلى الآلات الحديثة، وإلى برامج هي في الحقيقة مضيعة للوقت أكثر مما هي مفيدة ونافعة.
أعرف أناساً يقضون نهاراتهم كلها أمام التلفزيون، الذي لا يمكن أن يوفّر لهم القدر المطلوب من العلم والثقافة والعمق المعرفي.. ومع ذلك، ومع ظهور التلفزيون والقنوات المتعدّدة المشارب، تراجع دور الراديو تدريجياً. وهناك من يقول إنّ عصر الراديو قد أفَل. ولكن ذلك مناف للحقيقة. فمع أن دور الراديو قد تقلص فعلاً، فإنه لم يفقد دوره، وما زال قائماً وبقوّة، والعودة للاستماع إلى نشرة الأخبار التي أفضلها من خلال أصوات المراسلين المنبعثة، والمكان الذي يقيمون فيه، فضلاً عمّا يُبثُّ فيه من برامج إذاعية قيّمة، وحوارات مباشرة ومسجلة لها مكانتها لدى المستمع، ما زال يؤخذ بها وإلى اليوم، وبرغبة شديدة.