الجيران لبعضها

25 مارس 2021
+ الخط -

قوى شريرة كثيرة فشلت في تضييع مستقبل صديقنا النابغة، لكن جاراً له أوشك أن ينجح في ذلك.

بصراحة، خِفت على صديقنا النابغة عندما جاءني ذات يوم وهو زائغ العينين منكوش الإرادة، وابتدرني بسؤال لم أكن أتوقعه على الإطلاق: «تفتكر أنا لو قتلت ابن الصرمة اللي ساكن قصادنا مش ده يبقى دفاع عن النفس؟». كان آخر من يخطر العنف على باله من بين كل معارفي، هو صديقنا الذي بلغ من تهذيبه أنه كان يقول لنا عندما نلعن الشيطان: «يا إخواننا ادعوا له بالهداية»، فماذا حدث له إذن؟ ولماذا وكيف، أسئلة أجيبك عنها بعد أن تُسمعني أولا قولك: «سبحان مَن يُغير ولا يتغير».

بعد أسبوعين من دُخلته المباركة على زوجته التي حفي من أجل أن يتزوجها ويضاجعها بما لا يخالف شرع الله، كنا نسأله كلما زرناه أو هاتفناه كأصحاب عن أخبار "السيكو سيكو"، عادي يعني ألسنا أصدقاءه؟ وكان دائما يرد علينا بغضب يتصاعد من مرة لأخرى أن نتنيّل ونسكت، وقبل أن يروح بالنا لبعيد فنظن به أو بها الظنون، قرر أن يحكي لنا مأساته، ليتضح لنا أن صديقنا يدفع منذ زواجه السعيد غاليا ثمن استخفافه بالأمثال الشعبية؛ فهو لم يسأل عن الجار قبل الدار؛ لأنه ما صدّق أن يجد شقة لُقطة متشطّبة سوبر لوكس ليضع بها عفشه ويسكنها سريعا ليقضي وطره بالحلال، ويا ليته ما فعل.

ربما عذره أنه لم يتوقع أن يُقضى على أحلامه المشروعة في المضاجعة الحلال، جار سيكوباتي يسكن في الشقة المواجهة لغرفة نومه، يخرج منتصف كل ليلة إلى البلكونة عاريا إلا من بوكسر فاحش، مخرجا معه إلى البلكونة ثلاجته "الستاشر قدم" وخرطوما طويلا موصولا بحنفية مطبخه، ويبدأ في غسل الثلاجة بالماء والصابون في البلكونة على أنغام موسيقى «هيفي ميتال» صاخبة تجلجل كل ليلة لأكثر من ساعتين دون أن ينبس أحد من السكان ببنت شفة.

في اليوم التالي فوجئ صديقنا عند نزوله إلى العمل أن العمارة بأسرها تتناقل أخبار موقعته المظفرة، فانبسطت أساريره ومنّى نفسه بمباراة ليلية أشد متعة وإثارة

رغبنا في تخفيف معاناة صديقنا الذي كان يحكي لنا وهو يجهش بالبكاء، فحكى له أحدنا عن جاره الذي يعشق تحريك الأثاث كل ليلة في تمام الثانية بعد منتصف الليل، وأضاف آخر أملوحة عن جاره الذي يسكن فوقه والذي أيقظ أطفاله مفزوعين في عز الليل وعندما صعد ليتخانق معه، وجد أن جاره قد كوّم أثاث البيت كله في غرفة وأخذ يجري شبه عارٍ في الشقة «عشان يخس»، وجد صديقنا في حكاياتنا بعض العزاء فتشجع بسؤالنا عن رأينا في جدوى تحرير محضر لجاره المأفون، فتحولنا جميعا على الفور إلى حكاية نوادر وأملوحات عن البهدلة التي نالت كلًّا منا عندما دخل قسم بوليس برجليه، فألغى صديقنا الاقتراح قبل أن ينفضَّ مجلسنا.

لم ندرك خطورة الشحن العاطفي الذي عرضنا له صديقنا ليلتها، فمن أين كنا سنعلم أنه لن يكتفي بالشكوى العاجزة، وأنه سيتنحرر أخيرا فور أن تقول له زوجته ساخطة: «هتفضل ساكت لإمتى؟!» بعد أن فاض بها الكيل، لأن صوت موسيقى الروك قطع تصاعد لقاء زوجي حميم من ذلك الذي يظهر تلاطم الأمواج وفوران كنكة القهوة كبديل بصري له في أفلام الأبيض والأسود، وصديقنا قرر أن تفور كنكته وتتلاطم أمواجه في وجه جاره المأفون؛ ولذلك حط الروب على لحمه وانطلق إلى شباك مطبخه ففتحه وبدأ ينهال بالشتائم على جاره الذي واصل بكل برود غسيله العاري للثلاجة، وعندما وضع الجار اللعين يده في مكان حساس من البوكسر في حركة تحدٍّ سافرة، فقد صديقنا شعوره وأخذ يرميه بحبات البصل التي وجدها قرب شباك المطبخ، ليفاجأ بجاره ينسل إلى شقته صامتا بصحبة ثلاجته وخرطومه مطفئاً الكاسيت وأنوار شقته أيضا، مما أعاد صديقنا إلى عرينه مرفوع الهامة منتصب القامة، ليسجل ليلتها أجمل أهدافه في مرمى الزوجية.

في اليوم التالي فوجئ صديقنا عند نزوله إلى العمل أن العمارة بأسرها تتناقل أخبار موقعته المظفرة، فانبسطت أساريره ومنّى نفسه بمباراة ليلية أشد متعة وإثارة، فجأة انبرى له ساكن قديم ليأخذه بالحضن قائلا بصوت دوّى في سماء المنور: «أخيرا ابن السافلة ده لقى راجل يقف له.. والله العظيم قلت لهم لازم ييجي يوم ويسكن عندنا حد ما يعرفش إنه اتسجن سبع سنين في قضية قتل المحامين، ولاد الكلب خلوه يتحبس فيها سبع سنين بس على أساس إنه بيدافع عن نفسه، مع إن كل الناس عارفة إنه شراني وابن صرمة.. هو إيه هيرعبنا يعني.. آديك أهوه مسحت بكرامته الأرض ومافتحش بقه».

ترك الجار صديقنا مرعوبا بحيث إنه لم يسمع شيئا طيلة اليوم سوى أصداء تلك الجُمَل التي قالها جاره بحماس، وفي المساء لم ينزل إلى ملعب المضاجعة رغم سعي زوجته الحثيث لإقناعه بالتسخين ومحاولتها إحماءه بكل ما أوتيت من قدرات كادت أن تنجح، لولا أنه عندما أعلنت إشارات ضبط الوقت تمام منتصف الليل، دوّى صوت «الهيفي ميتال» مجددا معلنا عودة جاره إلى العربدة، فنظرت زوجة صديقنا إليه مشرئبة، لتستغرب اكتساء وجهه بهدوء ملائكي، وعندما نهرته ليتحرك كالأسد الهصور كما فعل بالأمس، خرج صوته منافسا صوت الداعية عبلة الكحلاوي في السكينة والرحمة قائلا لها: «يا ستي ادعي له إن ربنا يهديه.. الإنسان لما يبقى وحيد تتوقعي منه أي حاجة.. واحمدي ربنا إننا مع بعض».

وقبل أن تستوعب زوجته ما حدث رجاها أن تضيف إلى أسباب حمدها أن الله ألهمه النزول بكره إلى أقرب فرع قبنوري ليركب للبيت كله شبابيك عازلة للصوت، وعندما رفضت زوجته أن تحمد الله، اضطر أن يحكي لها مخاوفه المستمدة من أقوال الجيران، ففوجئ بها تقول له ساخرة بصوت كالفحيح: «عاش الرجالة الورق.. كده بقينا اتنين ولايا في الشقة»، ساب لها البيت غاضبا مجروحا، وجاءني ليسألني زائغ العينين منكوش الإرادة: «تفتكر لو قتلت ابن الصرمة ده مش هالاقي محامي يخلّص القضية إنها دفاع عن النفس؟».

...

قصة من مجموعتي القصصية الثالثة (الشيخ العيّل) التي تصدر طبعتها الجديدة قريباً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.