الثورة والحاجة للكتلة الحرجة
منذ انطلاق الثورة السورية قبل 12 عاماً، والمعارضة السورية تواجه بطرق مختلفة أسئلة تأسيس كيان جامع لإدارة المناطق المحرّرة بمختلف الجوانب، كيان يقيم العدل بين المواطنين، ويعطي الحقوق لأصحابها، ويساوي بين السوريين أمام قانون عادل ومنصف.
من الأسئلة المهمة في بناء مؤسسات البلاد، سؤال وجود الكتلة الحرجة في المجتمع والنخبة، فقد توّقف علماء الاجتماع والعلوم السياسية عند مفهوم الكتلة الحرجة (Critical Mass)، القادم من علم الفيزياء، والمقصود بهذا المصطلح هو مجموع المؤسسات التي تضمّ الأشخاص حاملي أفكار التغيير، وعناصره الثلاثة (الأشخاص، المؤسسات، الأفكار) التي تقود التغيير في البلاد، ولا بد من وجود حدّ مقبول من التجانس بين هذه العناصر الثلاثة، وانصهارها في بوتقة واحدة من أجل خلق كتلة مؤثرة، قادرة على إحداث التغيير المطلوب.
وتقوم الكتلة الحرجة ببناء المؤسسات عبر إيجاد مكوناتها الرئيسية، والتي أبرزها الهدف، والهيكل الإداري والنظام الناظم، فالأول هو الذي يعطي استمراريتها، والثاني هو الذي يحوّل الأفكار إلى مشاريع على الأرض، والثالث هو الذي يضبط العلاقة، وينظم سيرها، والمتأمل في واقع المؤسسات في المناطق المحرّرة على اختلاف مجالاتها وتسمياتها، لا يجد شيئا من هذه المكونات، ولا تمتلك أي عنصر منها.
وفي الثورة السورية، ومن خلال قراءة التحولات الاجتماعية والاقتصادية والمدنية في المناطق المحرّرة، وما تحمله من تعبيرات سياسية، لا يلمح المواطن العادي أي تحولات واضحة في منهجية عمل قوى المعارضة السورية في المجتمع والاقتصاد والسياسة، يمكن أن تقوم بدور الكتلة الحرجة، وهنا تكمن العلّة الكبرى المتمثلة باستمرار الحلقة المفرغة والدوران حول الذات، وإعادة الاجترار ذاته.
لا يلمح المواطن العادي أي تحولات واضحة في منهجية عمل قوى المعارضة السورية في المجتمع والاقتصاد والسياسة
ففي الشمال السوري لدينا عشرات الفصائل العسكرية وأمثالها من المؤسسات العسكرية والمدنية، ويدّعي قيادات هذه الفصائل والمؤسسات بأنهم أصحاب حلول سحرية لكلّ ما يصيب البلاد من مشاكل، وبأنهم يملكون الخبرة للتعامل مع الأحداث الأمنية والاجتماعية والاقتصادية والخدمية بما يحقّق الصالح العام، ويسارع هؤلاء "المجترون" بإعطاء الحلول التي عجزوا عن تطبيق، ولو عشرة بالمائة منها، ومع ذلك تجد هناك مجموعة من المطبلين والمزمرين لهم! كما تستمر عملية الاجترار ببيانات كثيرة تقول أكثر مما تفعل، فيضيع الطعم الأول للوجبة قبل اجترارها، ويعتاد السوريون على الطعم المجتر، متوهمين أنه وربما في مضغة قادمة سيتغير الطعم.
نعاني اليوم من تكرّر الاجترار، الذي بات ممقوتاً ومميتاً في آن، فكلّما تعرّضت إحدى المدن المحرّرة لتفجير أو انفجار عبوة ناسفة أو تصاعد الصدامات المسلحة بين الفصائل تكون السمة العامة تنهيدة ساخنة تشكل مقدمة لبيان وخطاب تاريخي يشبه بيانات القمم العربية.
إن عملية استمرار اجترار نفس الإنشاء وإصدار نفس البيانات عقب كل حادثة أمنية أو اقتصادية أو خدمية تضع علامة استفهام كبيرة على هذه البيانات الفارغة الجوفاء، والتي أصبح المواطن العادي يشعر بالاشمئزاز من قراءتها، ويدرك تماماً مقصد هذا الإنشاء الممل، أي أنه للإعلام ولدغدغة مشاعر الشعب المقهور.
وسبب هذا الاجترار يعود لعدّة أسباب منها: غياب المراجعة النقدية وعدم وجود سلطة رقابية، وعدم استقلال جهاز العدل والقضاء وانتشار الفساد والمحسوبية داخله وارتباط قضاته وموظفيه بالجهة التي اختارتهم لهذه الوظيفة، وتصرّف الفصائل العسكرية بعقلية الغالب والمغلوب، ما أوقعها مرّات متكرّرة في منطق تصفية الحسابات من جهة، وعمّق لديها فكرة الاستقواء بالحواجز والمعابر للحصول على موارد خاصة، فهذه الفصائل والمؤسسات لم تتخلص حتى الآن من عقليتها الإلغائية ومنطقها غير التنموي، وسلوكياتها العبثية وادعاءاتها غير الموضوعية، لذلك يمكن القول إنّ الواقع عندنا لم يزل يتسم بإبعاد الفكر الثوري العقلاني، وهيمنة الاجترار الشعاراتي، ورفض المراجعة النقدية، واللجوء إلى التخندق المناطقي وإلغاء الآخر.
وبغياب الكتلة الحرجة وفرض رؤية سلطات الأمر الواقع، أصبح الشعب الثائر يخشى أن تصبح الثورة تراثاً مجتراً مصحوباً بالألم والمعاناة فقط!
إنّ مصطلح الكتلة الحرجة يرتبط بمفهوم الثورة التي تهدف إلى تغيير عميق في بنية المجتمع وأسسه القائمة، وليس إحلال طبقة حاكمة محل أخرى وأنماط لعلاقات سلطة مدنية ديمقراطية جديدة. كما أنّ الكتلة الحرجة هي التي تشكل الطليعة الثورية، والتي تمتلك القدرة على صناعة حالة ثورية دائمة في انتظار التحوّل الكبير. فهل تبادر النخب الثورية بعيدا عن المعارضة الوظيفية لتشكيل كتلة حرجة وتمارس دور المحرّك الصغير لتشغيل المحرك الكبير؟
لقد حان الوقت لتشكيل تلك الكتلة، ولو معرفياً وثقافياً، ونشر الوعي بضرورتها، وتشكيلها من نخب المجتمع المدني وتياراته المتعددة، ومن البنى الثقافية والاجتماعية المختلفة، فالكتلة الحرجة لا تتشكل بقرار سياسي إنما هي عملية تحتاج ثقافة جديدة ووعيا بضرورتها.