التفكيك والنقد الأدبي

27 نوفمبر 2024
+ الخط -

أشرت في تدوينتي السابقة إلى أنّ قدر التفكيك قد اختلف، جزئيًّا، عن المصير الذي أراده له جاك دريدا، من حيث إنّ دريدا نفى أن يكون التفكيك نقدًا ولم يرد له ذلك المصير، لكن كثيرين رأوا أنّ التفكيك يزوّدهم برؤيةٍ معرفيةٍ منهجيةٍ يمكن بلورتها في منهجٍ أو مقاربةٍ نقديةٍ، للنصوص والأفكار عمومًا. وبذلك حصل التباين المذكور بين مصير التفكيك وقدره. لكنني أشرت إلى أنّ هذا الاختلاف جزئيٌّ فقط.

فمن ناحيةٍ أولى، لم يتردّد دريدا نفسه في الحديث عن التفكيك بوصفه نقدًا أو يتضمّن نقدًا، لكن مع التشديد على أنه ليس مجرّد نقدٍ، بل هو أكثر من مجرد نقد. ففي نصّ "انفعالات"، على سبيل المثال، يرى دريدا أنه من المفترض أنّ "التفكيك من نفس مرتبة النقد"، وتحدّث عن الفكر النقدي، الفكر النقدي اللاذع، بوصفه "الفكر التفكيكي" الذي يقتضي "التخلّي عن العقائد والافتراضات المسبقة قدر الإمكان". كما دعا، في نصّ "الجامعة من دون شرط"، إلى الحقّ في التفكيك، بوصفه حقًّا لامشروطًا في طرح أسئلةٍ نقديةٍ، "ليس فقط على تاريخ مفهوم الإنسان، بل أيضًا على تاريخ مفهوم النقد ذاته، وعلى صيغة وسلطة السؤال وعلى الصيغة التساؤلية للفكر". ويرى ديفيد أليسون (Daivid Allison) أنّه على الرغم من غرابة مصطلح التفكيك، فإنّ هذا المصطلح يجب ألا يحمل أيّ صعوبةٍ. ويعرّفه بأنه "مشروع للفكر النقدي الساعي إلى تحديد وتحليل "take apart" تلك المفاهيم المستخدمة بوصفها بديهيات وقواعد لحقبة فكرية، وهي المفاهيم السائدة والمنتشرة في حقبة ميتافيزيقية بكاملها".

وقد يكون مفيدًا وضروريًّا، في هذا السياق، إبراز التمايز بين فعلي النقد والانتقاد، وهو التمايز اللغوي الواضح في اللغة العربية، والغائب عن لغاتٍ أخرى. فإذا كان بالإمكان إيجاد تشابكٍ وتقاطعٍ أو تداخلٍ بين مفهومي التفكيك والنقد، فمن الأسهل والأدق والأكثر معقولية الحديث عن تخارجٍ كاملٍ بين مفهومي التفكيك والانتقاد. فالتفكيك الدريدي للنص، أو بالأحرى إظهار تفكّكه، ليس انتقادًا للنص، ولا إظهارًا لأخطائه أو سلبياته أو نقائصه... إلخ، بل هو إظهارٌ لغناه الدلالي، وتضمنه لأكثر ممّا يقوله مؤلفه أنه يقوله فيه. ودريدا كان عمومًا لا يفكّك أو يظهر تفكّك إلا النصوص التي يكن لها كلّ الحب والإعجاب والتقدير. ولعل كلمة تفكيك العربية تعطي الانطباعات بسلبية ما. وأذكر أنني، في محاضرةٍ عن فكر/ نصوص العظم، عندما حاولت تفكيك تلك النصوص أو إبراز تفكّكها، أبدت "زوجته" امتعاضًا واضحًا من حديثي عن ذلك التفكّك، فاضطررت إلى التشديد على أنّ التفكّك المقصود هنا ليس نقيصةً ولا أمرًا سلبيًّا، من حيث المبدأ على الأقل. 

الغاية الوحيدة أو الأساسية للتفكيك هي السماح للآخر أو للمختلف بأن يكون وأن يتكلّم

ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، كان للتفكيك حضورٌ بارزٌ في النقد الأدبي عمومًا، وحصل ذلك بقبول ضمنيٍّ أو صريحٍ من دريدا ذاته. وفي كلّ الأحوال، كان بول دومان، أبو التفكيك الأميركي، ناقدًا أدبيًّا ومنظّرًا في مجال الأدب والنقد الأدبي عمومًا. وفي كتابه الأبرز، "العمى والبصيرة: مقالات في بلاغة النقد الأدبي المعاصر"، رأى دومان أنّ "عمل دريدا هو أحد الأماكن التي يتقرّر فيها الإمكان المستقبلي للنقد الأدبي". ومثل دريدا، شدّد دومان، في كتاب "أمثولات القراءة" الذي تبنى فيه التفكيك تبنيًّا كاملًا وصريحًا، على أنّ التفكيك ليس فعلًا يقوم به القارئ، بل هو تفكّكٌ محايثٌ للنص (الأدبي) ذاته، وبأنه ليس منهجًا، لأنه لا يتضمن مجموعة من القواعد الثابتة التي يتم تطبيقها على النص. فالغاية الوحيدة أو الأساسية للتفكيك هي السماح للآخر أو للمختلف بأن يكون وأن يتكلّم. فالتفكيك هو ما يحدث للنص، بغضّ النظر عمّا يقوم به القارئ. وبكلماتٍ أخرى، التفكيك ليس تفكيكنا، نحن القراء أو النقاد، بل هو تفككٌ قائم في النص مسبقًا وأصلًا.

وفي حين أنّ "النقد الجديد" قد هيمن على ميدان النقد الأدبي بين العشرينيات والستينيات من القرن الماضي، فإنّ العقود الثلاثة التالية قد شهدت غياب ما يسميه توماس كون، في إطار تأريخه وتنظيره للعلوم الطبيعية، بالنموذج الواحد المهيمن، بل كانت هناك حروب نظرية، وكان "النقد التفكيكي هو أحد أبرز أقطاب تلك الحروب". وعلى الرغم من "النقد" الشديد الذي وجهه التفكيك للنقد الجديد، فإن اختلافه عنه لم يكن كاملًا أو مطلقًا. فالنقد التفكيكي (الأدبي) يتفق مع النقد الجديد، ومع ما جاء في كتاب أحد أبرز أعلامه، وليم إمبسون، كتاب "سبعة أنماط من الغموض"، بأنّ النص (الأدبي) مليء بالغموض والتناقضات، كما يتبنى معه مفهوم "القراءة الحميمة أو اللصيقة"، التي انتشرت منذ ثلاثينيات القرن الماضي وكانت معارضةً للقراءات السياقية النفسانية والاجتماعية والثقافية... إلخ. لكن هذا التبني وذلك الاتفاق لا يعنيان أنّ التفكيك الأميركي أو النقد الأدبي التفكيكي يرتبط بالنقد الجديد أكثر من ارتباطه بدريدا، كما يرى عبد العزيز حمودة، في كتابه "المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك".

لا يطمح النقد التفكيكي إلى تجاوز ما يفكّكه أو إنهائه؛ فهدفه هو عرض المفارقات والتناقضات الكامنة أو القائمة في نسق أو نظام معرفيّ ما

فالقراءة لدى التفكيكيين والنقاد الجدد هي قراءة لصيقة، لكن النقد الجديد يسعى إلى إبراز الوحدة العضوية للنصّ، بينما النقد التفكيكي يسعى إلى إبراز تفكّكه وتناقضاته ومآزقه ومعضلاته أو أبورياته ومن ثم لا-مقروئيته unreadability. فالقراءة عند التفكيكيين ليست مجرّد صهر معنيين متضادين كما هو الحال عند النقد الجديد؛ وإنما هي الوقوع بين معنيين لا يمكن المصالحة بينهما ولا رفضهما. فعلى العكس من النقد الجديد، يرى التفكيك أنّ الأضداد في النصّ ليست مجرّد تناقضات تعبّر عن خطأ الكاتب، ويلغي بعضها بعضًا، بل يرى أنها محايثة ولا يمكن تجنبها أو تركيبها أو تجاوزها جدليًّا. ولهذا فإنّها تكون أقرب ما يكون إلى الجدل السلبي على الطريقة الأدورنية، من قربها من الجدل الإيجابي على الطريقة الهيغلية. واستراتيجية تفكيك النصوص، عند دريدا، تتضمّن بدايةً، تحديد تقابلٍ مفهوميٍّ تناقضيٍّ، وإبراز التراتبية المعيارية التي يتضمنها، ثم قلب أو عكس هذه التراتبية، بما يفضي إلى إعادة النظر في العلاقات بين طرفي الثنائية وإظهار تداخلهما واعتماد كلٍّ منهما على الآخر. وأحد أهم الأضداد التي يركز عليها التفكيك هو التضاد بين القراءة التقليدية المهيمنة أو القراءة الحرفية للقصد المعلن للكاتب في نصّه، والقراءة التفكيكية التي تبيّن أنّ النص يتضمن ما هو مضاد لتلك القراءة التقليدية/ الحرفية وذلك القصد المعلن. فما يميّز التفكيك، بصفته ممارسةً نصيةً، هو تلك القراءة المزدوجة، حيث تكرِّر القراءة الأولى للنص التأويلات السائدة لتصل إلى نقطة العمى التي تفتح المجال واسعًا أمام القراءة التفكيكية التي تدرس منطق النص المنفلت من قصد المؤلف وتصل إلى البنية الدالة المتموضعة بين قصد المؤلف ودلالة نصّه. 

وفي النهاية، يمكن القول إن النقد التفكيكي لا يطمح إلى تجاوز ما يفكّكه أو إنهائه ... إلخ؛ فهدفه هو عرض المفارقات والتناقضات الكامنة أو القائمة في نسق أو نظام معرفيّ ما.

حسام الدين درويش
حسام الدين درويش
باحث ومحاضر في الفلسفة والفكر العربي والإسلامي. يعمل باحثاً في مركز الدراسات الإنسانية للبحوث المتقدمة "علمانيات متعددة: "ما وراء الغرب، ما وراء الحداثات" في جامعة لايبزغ، ومحاضراً في قسم الدراسات الشرقية، في كلية الفلسفة، في جامعة كولونيا في ألمانيا. حائز على شهادة الدكتوراه من قسم الفلسفة في جامعة بوردو ٣ في فرنسا. صدر له عدد من الكتب والمؤلفات، وينشر باللغتين العربية والانكليزية. يعرّف عن نفسه بالقول "لكلّ إنسان صوت وبصمة، ولكلّ شيء قيمة ومعنى".