التسامح هو الوسيلة الوحيدة لتحصين المجتمع
تطل علينا بين الحين والآخر، ممارسات تؤرق الشارع الأردني ليعود موضوع العيش المشترك والوئام بين جميع أطياف المجتمع ليفرض نفسه بشدة على الحوار العام..
فموضوع الوئام بأوجهه المختلفة ينشط كحوار وطني في الأسبوع العالمي للوئام في شهر شباط من كل عام، وما إن ينفض أسبوع الوئام هذا، حتى تعود الأمور إلى ما كانت عليه ما بين شد وجذب على وسائل التواصل الاجتماعي، وما تلبث أن تزيد سخونتها أو برودتها مع اختلاف الأحداث أو الآراء أو الحوارات.
وبالرغم من الجهود الجميلة التي يبذلها الأفراد والمؤسسات وقادة الأديان، إلا أننا ما زلنا في حاجة ماسة لمساعٍ أكثر تأثيراً ومنهجية لنرتقي بهذا الحوار المجتمعي ليشمل طيفاً أوسع من أبناء المجتمع، لأن الارتقاء بالفكر يؤدي إلى ارتقاء السلوك.
وهنا، نحن لا ندعو للتشابه، وإنما وحدة المجتمع تكمن في التعددية والتنوع، بمعنى التفاعل والتعايش وتجاورها وتعددها في الفضاء الواحد. ومن ثم فإن العلاقة مع الآخر لا يمكن أن تؤدي دورها المنشود، إلا إذا تأسست على قاعدة احترام متبادل بين الأطراف المتحاورة، واحترام كل جانب لوجهة نظر الآخر، لأن الهدف ليس هو السعي وراء الاتفاق الكلي، وإنما هو ربط العلاقات مع الآخر لإثراء الفكر، وترسيخ قيم التسامح واحترام إنسانية الإنسان، بالبحث الجاد عن القواسم المشتركة، التي تشكل الركيزة الأساسية لتماسك لحمة المجتمع.
بالإضافة إلى الأفراد والمؤسسات، تقع على عاتق قادة الأديان مسؤولية عظمى لمنع الممارسات الازدرائية وعليهم أن يرشدوا أتباعهم
وهنا لا بد من محو التعصبات كافة لأنها هادمة لبنيان المجتمع، ولن تسود الراحة والاطمئنان ولن يستقر المجتمع ما لم تُنبذ تلك التعصبات التي هي نتاج أفكار ومعتقدات نُسلّم بصحتها ونتخذها أساساً لأحكامنا بدون أن نتحرى الحقيقة من مصادرها.
وفي مسألة حرية الدين والمعتقد، علينا أن نصبح متبنين لثقافة تقر بالطبيعة المقدسة للضمير الإنساني، طبيعة تمنح الحق لكل فرد في البحث الحر عن الحقيقة وتعزز الحوار السلمي لإفراز المعرفة وإن هذه الحرية مرهونة بكشف الأفكار وبالقدرة على مشاركة المعلومات وتبادلها.
وأعتقد بأن عدم قدرتنا على الحوار مع الآخر يعودُ إلى عدم تعوّدنا على النقاش، وحتى مسألة تجاوز الأنماط التي فرضت علينا هي أكبر تحد للانفتاح نحو الآخر المختلف. إذاً الحوار إغناءٌ، وليس إقصاء، بل الإنماء باتجاه الأفضل والأحسن دوماً لتطوير الحياة، وعليه، فالحل العملي لقبولِ الآخر والحوار معه، يبدأ من البيت والأسرة كأسلوبِ حياةٍ في التعامل ما بين المواطنين على تنوعهم وتعدّد انتماءاتهم ومشاربهم، بحثاً عن قواسم مشتركة للعمل معا لرفعة المجتمع.
والسؤال هنا، كيف يمكن أن نرعى بيئات يمكن أن ينمو فيها الأطفال دون ملوثات من شتى أنواع التعصبات، وكيف يهب الشباب الملتزمون بإقامة مجتمع قائم على ترسيخ قيمة المواطنة والعدل، بإشراك أقرانهم ممن يماثلونهم بالفكر ببناء المجتمع على هذا الأساس بصرف النظر عن المعتقد والثقافة والطبقة، بحيث يدخلون في محادثات جادة في كيفية تحقيق الصلاح الروحاني والرفاه المادي من خلال تطبيقهم لتعاليم دينهم. حتى وإن كان الوصول إليه قد يأخذ عقودًا من العمل الدؤوب، إلا أن نقطة البداية تكمن في الحوار القائم على أساسٍ ودّيٍ بين أطياف المجتمع المختلفة.
إن عملية نشر قيم التسامح والاعتدال والوسطية، ليست عملية شعارات، إنما هي عملية لها أهداف ومحاور يجب أن تتبناها كل مؤسسات الدولة. فالإنسان عدوُّ ما يجهل، ومن ثمَّ يرسم كلُّ واحد لنفسه صورة عن الآخر انطلاقاً من مخاوفه وشكوكه. ومن باب الدفاع عن النفس فيرسمها بصورة دفاعية، بدلاً من أن يرى في الآخر شريكاً له في البناء للمجتمع ككل جنبا إلى جنب.
لم يعرف الأردن خطابا للكراهية أو الازدراء باسم الدين. إلا أن موجات التفاعل على المستوى الشعبي وعلى وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت شائعة مؤخرا وتتعرض لمناسبات دينية مختلفة. مما يستدعي وقفة منا لإعادة النظر في طريقة تعاطينا مع مواضيع تخص العقيدة والدين، وخاصة أن المناهج الدراسية لم تبرز غنى المجتمع الفسيفسائي بكافة أطيافه العرقية والدينية، ناهيك عن الحرية الكاملة على وسائل التواصل الاجتماعي للحوار قد فتحت الباب لهكذا نقاشات جدلية.
وبالإضافة إلى الأفراد والمؤسسات، تقع على عاتق قادة الأديان مسؤولية عظمى لمنع الممارسات الازدرائية وعليهم أن يرشدوا أتباعهم، قولاً وفعلاً إلى العيش المشترك مع جميع مكونات المجتمع. لأن التدابير القانونية وحدها لن تكون قادرة على استئصال التعصبات، بل هي مسؤولية مجتمعية للمساهمة في خلق ثقافة من الاحترام وتبادل المعرفة لدعم مبادئ البحث المستقل عن الحقيقة.
وفي النهاية، إن تجذيــر ثقافــة التســامح وتعميمهــا هــو الوســيلة الوحيدة لتحصيــن مجتمعنا ومنع الشباب من الانجراف نحو التعصــب والإقصــاء.