التحليل النفسي لجمال عبد الناصر (2/2)
خلال تعقيب الدكتور يحيى الرخاوي على صفات عبد الناصر التي تناقلها معاصروه عنه، يتوقف طويلاً أمام صفة النزاهة ونظافة اليد التي عرف بها عبد الناصر، حيث يشهد له أغلب من عاصروا حياته وأرّخوا لحكمه أن يده لم تمتد للمال العام وأنه مات بلا رصيد في البنوك، ولم يكن قد سدد باقي أقساط منزله، ومع أن الرخاوي يعترف بصحة تلك الصفات إلا أنه يقلل من أهميتها قائلا إن سر انبهارنا بها "هو أن التدهور الأخلاقي المعاصر جعلنا نعتبر بديهيات الأخلاق مميزات فريدة للزعامة، وأن الأصل في الإنسان أن يكون أميناً ونزيهاً"، ثم يتساءل الرخاوي عما كان يفعله عبد الحكيم عامر في الجيش المصري، حيث كاد الأمر أن يصل إلى تسجيل الجيش المصري باسمه في الشهر العقاري حفاظا علي تأمين جانبه. "أليس هذا سرقة للمال العام وللجيش العام ولثورة الشعب جميعها؟"، هكذا يسأل الرخاوي قبل أن يضيف: "إن عبد الناصر رحمه الله قد كان تقمص الدولة والسلطة والبلد. حتى أصبح نفسيا على الأقل هو النظام، فهل يسرق نفسه من نفسه ليؤمن نفسه؟!".
يستطرد يحيى الرخاوي في الحديث عن قضية الخلط بين المال العام والمال الخاص والتي كانت قائمة قبل عبد الناصر، وظلت قائمة بعده، كتقليد من تقاليد المجتمع القبلي ضارباً أمثلة بما أصبح يعرف اللفتات السنية أو الهبات الملكية والرئاسية، ويضرب مثلاً ساخراً بنزاهة الرئيس معمر القذافي التي لا يشك فيها مؤيدوه، "لكن هذه النزاهة لا تنفي حريته في التصرف في مال الدولة من أيرلندا إلى تشاد وربما من كولومبيا إلي إيران أو ميت غمر". ثم يتوقف الرخاوي عند مجموعة من الصفات المرتبطة بعبد الناصر، والتي ترد دائما في معرض مدحه والثناء عليه، مثل أنه لم يكن يعاقر الخمر ولم يكن يعاشر النساء وأنه كان يأكل الجبنة القريش والزيتون، وهو يرى في ذكر هذه الصفات "خلطاً للأوراق فنحن لسنا بصدد التقييم الأخلاقي وإعطاء صكوك الغفران الدينية، بل نحاول قراءة التاريخ، واحترام قيم المجتمع ونواهي الدين، يُحمد لأي زعيم لكنه لا ينبغي أن يكون تقييما لزعامته، فلم يضر تشرشل أو يقلل من وطنيته أنه كان يشرب الخمر حتي الثمالة والحديث عن عدم شرب عبد الناصر للخمور أو تناول السادات للفودكا أو الزعم بأن عبد الناصر كان ملحدا، كل هذه الأحكام جميعا لا تصف عبد الناصر أو السادات بل تصف تخلف قائلها ولا تدل على موقف متدين بل تؤكد سطحية المواقف واستسهال إصدار الأحكام".
يضيف الرخاوي قائلاً في تعليقه المهم: "ثم إن عبد الناصر لم تكن له خليلات، لكنه سكت عن خليلات أصحاب وزملاء له، تركهم يشغلون مواقع أخطر ومراكز قوى طول الوقت، ولو كنا نتكلم عن مبدأ العفة فهو مبدأ لا يتجزأ، والطهارة الذاتية لا تسمح بأن يستشري ضدها ولأن عبد الناصر كان رجلا عصريا لا يتدخل في الشئون الشخصية باعتبار أنها لا تعيب صاحبها، لذلك فعدم معاشرته للنساء في الحرام موقف شخصي ومزاج خاص وليس فضيلة وطنية. كذلك الحديث عن أكله للجبنة القريش لا يعني شيئا، فقد فرحنا لأن أعضاء مجلس قيادة الثورة سهروا حتي الفجر في اجتماع وذهب أحدهم ليشتري سندوتشات فول وطعمية، ثم تطور الأمر بعد ذلك وتغير مزاج وطعام وسهرات أغلب هؤلاء وأولادهم وأنسبائهم في حياتهم وبعد مماتهم".
ويرى الدكتور الرخاوي أنه لا يجب أن نحاسب عبد الناصر عما آل إليه حال بعض أولاده وبناته، لكنه يستدرك قائلا "وإن كان الأغلب الغالب أنه مسؤول ضمنا، فما ينضح إناء، إن عاجلا أو آجلا، إلا بما ألقي فيه شعوريا أو لا شعوريا، ولذلك لا يجب أن نقف لنقرأ التاريخ من طبيعة مأكل أو مسكن زعيم، فخيمة القذافي ليست هي رمز إحياء الحضارة العربية، وجبن عبد الناصر القريش ليس هو الحل الاقتصادي المتقشف لمصر خاصة مع ارتباطه بحالته المرضية، وعباءة السادات وعصاته ليست هي الدالة على ارتباطه بعيشة الفلاح المتهني قلبه والمرتاح".
عبد الناصر لم يمانع أن يكون 15 يناير يوم مولده هو عيد الطفولة شخصيا، وهو ما يمكن أن يفسره مادحوه بقولهم إنه رضي أن يكون ممثلا للناس في بلده، فأصبح يوم مولده هو عيد الطفولة
رؤية نفسية لناصر وعامر
من أهم الأجزاء في القراءة النفسية لملف عبد الناصر والتي يقدمها الرخاوي، تحليله لعلاقة عبد الناصر بصديق عمره ورفيق سلاحه عبد الحكيم عامر، حيث يبدأ حديثه قائلا: "آه، جاء وقت أقسى الكلام فلا مفر"، ثم بعدها يؤكد أنه من المستحيل تقييم شخصية عبد الناصر وافعاله دون عبد الحكيم عامر، والعكس صحيح، وهو يرى أن العلاقة بينهما لم تكن مجرد صداقة و"جدعنة"، وإنما كانت تكاملا سريا لا شعوريا أقرب إلى التوحد، حيث يقوم كل منهما بما ينقص الآخر دون أن يدري، معربا عن اعتقاده أن عبد الحكيم عامر كان من الناحية النفسية والشخصية أكثر تماسكا رغم ظهور العكس، في حين أن عبد الناصر من الناحية النفسية والشخصية كان أكثر اهتزازا رغم ظهور العكس، كذلك كان عبد الناصر ملتزما في الجوانب الأخلاقية والنسائية والمزاجية، لكن عامر كان "يقوم بالواجب في الناحية الأخرى بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن صديقه اللدود".
يستخدم الرخاوي وصفاً خاصاً في هذه النقطة، حين يرى أن عبد الناصر كان "سهل التشريط"، ولذلك فهو يربط دائما ما هو جيش بما هو انقلاب (من خلال تجربته في 52)، وقد ظل هذا التشريط يعمل لديه خفية دون أن يدري حتي مات، ولذلك كان كلما اقترب من الجيش خاف من "حركة" تباغته دون حسابات دقيقة تماما مثلما فعل هو، لذلك كان يلجئه خوفه هذا إلي التمسك بعبد الحكيم أكثر فأكثر، ولا شك أنه كان يحب عبد الحكيم حبا صادقا، فقد كان بالنسبة له هو الحماية أو الوالد النفسي، وكان هو الوجه الآخر لذاته ولملذاته أو كان بمثابة "الطفل النفسي"، وكان أيضا القرين أو "المُسقط النفسي للذات الظاهرة"، وظل عبد الحكيم يقوم بما لا يقدر عليه عبد الناصر، وبما لا يريد أن يراه عبد الناصر في نفسه، وبما لا يجرؤ عليه عبد الناصر، وبما يرفضه عبد الناصر، ومن هنا ظهر التناقض وكثر التساؤل وفي نفس الوقت توثقت العلاقة حتي الموت.
يدخل الدكتور الرخاوي مجددا منطقة شائكة، حين يقدم قراءة سيكولوجية جنائية إن صح التعبير لمصرع عبد الحكيم عامر يضع فيها سيناريو متخيلا لما حدث، مؤكدا ـ دون الإشارة إلى مصدر رأيه ـ أن هناك من وضع حبوب سامة في نفس علبة الحبوب المنبهة، التي كان عامر يستخدمها للإفاقة من المخدرات التي يقول إنه "لم يكن يفيق منها إلا نادرا خاصة إذا جاءه زائر ما"، مضيفا أن عبد الناصر أجرى بداخله محاكمة عسكرية لقائد قواته، وأثبت عليه الاهمال المساوي للخيانة العظمى وأصدر حكما بإعدامه ونفّذه، خاتماً ما يصفه "حدسه الخاص" بالتأكيد على أن رحيل عبد الحكيم عامر كان حادث انتحار فعلا، ولكن لعبد الناصر الذي انتحر حين "نحر" صديقه، إذ قتل صورته الأخرى المتمثلة في عبد الحكيم، وأن ما حدث كان فرصة ولادة جديدة لعبد الناصر بعد أن تخلص من عبد الناصر الآخر "عامر"، وأن عبد الناصر تخلص من كثير من ضعفه وجبنه بإقدامه علي قرار الانتحار هذا، ولذلك كانت حرب الاستنزاف أول حرب حقيقية يدخلها، وكانت مبادرة روجرز أول سلام حقيقي يجرؤ على التقدم إليه.
هل كان ديكتاتورا؟
يجيب الدكتور يحيى الرخاوي على هذا السؤال الذي كان البعض يطرحه وقت صدور دراسته بجدية، وإن كانت الأيام قد حولته إلى سؤال مضحك للأجيال التالية، بقوله: "وهل يمكن ألا يكون عبد الناصر كذلك حتى لو أراد غير ذلك، إننا نصنع من الشخص العادي والأقل من العادي فرعونا، فكيف يمكن أن يهرب منا مثل عبد الناصر، وهو الأكثر احتياجا لذلك، فمن الناحية الشخصية عناده وغروره ليس لهما نهاية، ومن الناحية الموضوعية كانت البلد أحوج ما تكون إلى قفزة سريعة ضد القوانين والمألوف، ولا وقت للاختلاف ومحاولات الاقناع، وهو ما يستدعي ظهور الدكتاتور. لكن الجانب الشخصي والجوع إلى السلطة ونشوة الاختراق، حين يتمتع برؤية أفكاره الشخصية وهي تتحول إلى قوانين عامة غير مكتوبة، ثم يرى عظمة التسامي وهو يصبح خدمة عامة ومنحة اشتراكية، كل هذا لابد أن يجعله يتمادى ليقوم عن الشعب بكل العمل، ويصبح ديكتاتورا حانياً ولكن حُنوّا قاسيا مذلا".
فيما يتصل بهذه النقطة يناقش الدكتور الرخاوي الميزة التي تنسب لعبد الناصر في أنه لم يحتفل بعيد ميلاده، فيرى بأن عبد الناصر لم يمانع أن يكون 15 يناير يوم مولده هو عيد الطفولة شخصيا، وهو ما يمكن أن يفسره مادحوه بقولهم إنه رضي أن يكون ممثلا للناس في بلده، فأصبح يوم مولده هو عيد الطفولة. أما من يريد الذم فيستنتج أنه قد احتوى الوطن في ذاته، ويمكن أن يُستشهد هنا بصيحته الشهيرة عند محاولة اغتياله في المنشية "كلكم جمال عبد الناصر" وهو دليل على أن ذاته هي التي تملأ وعيه وليس مصر، مما يطرح أسئلة مهمة هي "هل ذاب عبد الناصر أو أي زعيم في وطنه؟ أم أنه التهم وطنه؟ هل تقمص الوطن فأصبح لا كيان له إلا فيه؟ أم أنه حل محل وطنه فأصبح وجوده الذاتي هو الوطن وكرامته الذاتية هي الوطن؟"، مجيبا بأنه يعتقد أن الذات قد التهمت الوطن وليس العكس، عند عبد الناصر وعند السادات على حد سواء.
يبقى في ختام هذا العرض لقراءة الرخاوي النفسية لملف جمال عبد الناصر، أن أشير إلى مناقشة مهمة قام بها لعبارة "عظيم المجد وعظيم الاخطاء" التي افتتح بها قراءته النفسية، فهو ينتقد تلك العبارة بشدة، معتبراً أنها موقف تسوياتي يشبه ما نكرره دائما من حديث سطحي حول أن كل إنسان يخطئ ويصيب، وأن كل ثورة لها وعليها، إلى آخر هذا الكلام الذي يصلح لمن يشتري كيلو جوافة، معتبرا أن الحكم على ثورة يوليو لا يمكن أن يكون بما انتوت عليه أو همت به، بل بما آلت إليه، لأن الخطأ الأخير قد يكون أحيانا المفسر الحقيقي للخطوات الأولى التي كانت واعدة وغامضة، "وإلا كنا كمن يعدد أفضال والد على بنيه فنقول إنه رباهم وكفل لهم المأوي والغذاء والحلم والترويح. ثم قام بوضع السم في طعامهم ليرحمهم من قسوة الزمان فماتوا جميعا.. فالمسألة ليست مسألة عدد من الأخطاء مقابل عدد من الانجازات، نحن لا نلعب لعبة النيشان ونعد الاصابات الخاطئة من الاصابات الصحيحة، إن بندقية التاريخ دائما مليئة بالرصاص، وخطأ واحد قد يقضي على الناس، فيغير المسار ويتراجع بالتاريخ".
كان هذا ما قاله الدكتور يحيى الرخاوي في قراءته النفسية لجمال عبد الناصر، فما الذي يمكن أن يقال في قراءة نسخته الباهتة المشوهة التي تحمل اسم عبد الفتاح السيسي، وما الذي يمكن أن يقال عن الراغبين في استنساخ طريقة حكم عبد الناصر آملين في الوصول عبرها إلى إنجازات لعبد الفتاح أو من سيأتون بعده من متقمصي شخصية البطل المنقذ، مع أن تلك الطريقة كانت السبب الأكيد في القضاء على انجازات شيخها جمال عبد الناصر، وستكون سبباً في منع حدوث أي نهضة حقيقية أو تنمية دائمة، مهما ظن كل عباد الله وكل عبيد الدولة غير ذلك، وهو ما لا يحتاج إلى مهارات لقراءة الغيب، بل يحتاج فقط إلى قراءة التاريخ الذي تعلمنا دروسه إن "السلطة المُطلقة مفسدة مُطلقة" وأن "الظلم يؤذن آجلاً أو عاجلاً بخراب العمران".
...
فصل من كتاب (بعض ما جرى لمصر) الذي يصدر قريباً بإذن الله.