الإنسان العربي الرخيص
عزيز أشيبان
يرتبط الإنسان، أي إنسان، بوطنه وينصهر في ثنايا مكوّناته وحركيته، ويحدّد انتماءه وفق روابط مادية ومعنوية متعدّدة. إذن، ثمّة علاقة تفاعل تبادلية حركية بين الطرفين، إذ يستمد المواطن قوته وكرامته وحضوره من قوة وطنه، ومن خلال المواطن نفسه وإسهاماته، يجد الوطن هويته ويتقوّى ويأخذ جميع أبعاد الحضور والاستمرارية. نتحدث هنا، عن علاقة كيميائية عميقة الدلالة، عصية على التحديد والتقنين، تتعدّى التحديدات القانونية، وتحظى بتجليّات متعدّدة متنوّعة على أرض الواقع.
في المنطقة العربية، تظلّ العلاقة بين الوطن والمواطن مضطربة، شائكة، دون أن تنفي حب المواطن لوطنه في وجود رابطة وجدانية قوية، قد تميل إلى الفتور، لكن بعيدًا عن شبح التلاشي والاندثار، نظرًا إلى أداء الحوكمة القائمة، والذي يؤثّر على حركية العلاقة، ليدب فيها أحياناً، الجمود واللامبالاة إلى درجة عدم الاكتراث بما يقع.
ما أعظم ذاك المواطن العربي المكافح المتمّسك بثوابت انتمائه وجذوره وحرقة حبّه لوطنه رغم توالي المآسي والكبوات والأزمات واسترسالها. لكن ماذا عن تمثلات الإنسان العربي في عالم اليوم؟
كلّ أبواب التغيير موصدة أمام المواطن العربي، وليس له الحق حتى في الحلم
نميل إلى التصوّر التالي: مواطن صوته غير مسموع، مسلوب الكرامة والحقوق، غارق في الأوهام والأماني، غير مقبل على المستقبل، شارد في أمجاد الماضي، ضحية الاستبداد في الداخل وعربدة الخارج وصلفه، دمه رخيص بين الأمم، وليس له من يدافع عنه أو يذود عن مقامه وكبريائه، لا يُقام له مقامٌ ولا وقار، أسهم قيمته في انحدار دائم في بورصة قيم مواطني العالم، قلبه ممتلئ بالحب ولا يعبّر عنه، جذوره منبعثة من تاريخ الحضارة ولا يراها في وطنه، يتحدث كثيرًا عن الأخلاق ويفتقدها في الواقع، يتغنّى بعزّة النفس والنخوة وهو مسلوب الكرامة، تزخر أرضه بالخيرات لكنه مُعدم، يتوق ويأمل دون أن يجد إلى أمانيه سبيلًا، كلّ أبواب التغيير موصدة أمامه، وليس له الحق حتى في الحلم، محاصر ومطوّق من كلّ جانب. أليس هذا هو واقع المواطن العربي الأصيل المهووس بحب وطنه والغيور على أمته؟
قطعًا لا يستحق ما يكابده من مشقة ومعاناة وخيبات. إنّه يعي جيّدًا قيمته وثقل ذخيرته ويبدي الممانعة والصمود والمقاومة رغم كيد الكائدين، ويأبى أن يكون كما يراه الآخرون، يتمرّد ولو في صمت وكبرياء، ويرفض كلّ التصورات التي تنسج عنه، ولا تبدي الاحترام والوقار لكينونته.
من المؤكد أنّ لمخرجات هذا التجلّي البئيس والقائم مدخلات عميقة ومتداخلة صعبة الإحاطة والفهم، ومع ذلك نحاول الخوض في الجزء البيّن منها. بادئ ذي بدء، يظن المواطن العربي أنّه مستهدف من العالم الخارجي وضحية المؤامرات التي تتناوب على استصغاره واستغلاله وتركيعه، وينصرف بذلك عن التدبّر في المدخلات الحقيقية لوضعه البئيس في ظلّ انحصاره في أغلال نظرية المؤامرة، والاتكال عليها في قراءة حقيقة ما يحدث دون مساءلة ذاته وبنياته النفسية والذهنية والثقافية المركبة والمعقدة. لا أحد ينكر تآمر المتآمرين وقوة الاختراق الخارجي، غير أنّ التقيّد بنظرية المؤامرة لا يكرّس إلا الكسل والخمول والاختزال وعدم إعمال العقل، في حين يستوجب الأمر التحرّك والبحث عن استيعاب حقيقة الأمور، والسعي نحو التمرّد على الواقع المفلس.
لا أحد ينكر تآمر المتآمرين وقوة الاختراق الخارجي، غير أنّ التقيّد بنظرية المؤامرة لا يكرّس إلا الكسل والخمول والاختزال وعدم إعمال العقل
من جانب آخر، غني عن البيان القول إنّ المواطن العربي يئنّ تحت رحمة سلطة بنيات فكرية جامدة، تقدّس كلّ ما هو قديم، وتتبرّأ من كلّ ما هو جديد إلى أن يصير قديمًا معهودًا به، وتعيق النزوع نحو الاجتهاد والإبداع ومواكبة التطوّر الرهيب الذي يعيشه العالم. تظل بذلك المنطقة العربية منزوية غير قادرة، حتى على استيعاب ما يحدث في بقاع العالم من ثورات علمية وتكنولوجية غير مسبوقة، فما بالك بالانخراط في منحاها؟ من المنطقي جدًّا والحال هذا، أن تظل سلطة المتخيّل هي المهيمنة في وجود شرخ بين الواقع وتأويلاته، والافتقاد إلى الشجاعة في مواجهته.
وما يزيد الطين بلة، شيوع بنيات نفسية وذهنية مضطربة، سلبية، انهزامية، تخريبية، تميل إلى الهدم الذاتي وهدم الآخرين تحت تأثير الاضطرابات النفسية وعقد النقص وتضخم الأنا والذهنية القبلية وتوغّل قابلية الاستعباد عند الكثيرين.
يستوطن الأداء السياسي قلب المدخلات، وربّما يقوم ينشطها ويعمقها. حقيقة، في غياب الديمقراطية وتسيّد الاستبداد بشتى أنواعه، يعيش المواطن العربي وضعًا داخليًّا بائسًا، فلا يشعر بإنسانيته في براثن أغلال مقاربة أمنية جاثمة على أنفاسه، وتجعل منه مواطنًا من الدرجة الثانية في وجود صفوة عائلات الريع والاحتكار والعمالة، إذ ليس له الحق في الاستفادة من خيرات بلده، يعيش الوصاية ويحدّد مصيره من الآخرين دون أن يترك له الحق في الاحتجاج أو النقد، مادام حق المساءلة والمحاسبة معطلًا إلى زمنٍ غير معلوم.