الإقبال على الحياة وصناعة الغد
عزيز أشيبان
عند نهاية كل سنة، نعاين نوعية استقبال الغرب للسنة الجديدة وإبداء التوق والحماسة لعام أفضل وإقبال حيوي على الحياة. نتحدث عن نشاط قيم حركية حبلى بالإيجابية والحماسة والتحفيز، تعكس إقبالاً قوياً على الحياة والخوض في تفاصيلها وبناء تصوّرات مستقبلها وتشكيل ملامحها.
تتميّز مجتمعات ما بعد الحداثة بحركية دائمة تنأى بالناس عن الرتابة والسلبية والنمطية، وتشق بين ثنايا نشاطها الأمل والآفاق وأسباب التقدّم والتطلّع. لا غرابة إذن أن تستقر حقيقة التغيير والتداول في قلب مجتمعاتها وتتنوّع الأفكار والبدائل والمبادرات على جميع الأصعدة. تشكل المقاربة القبلية النواة الصلبة لأنماط التفكير والتصوّرات قبل تنزيلها في المخطّطات الفردية والجماعية ويتم التعامل مع الدراسات المستقبلية بكلّ جدية وحزم.
بكلّ تأكيد تختلف الثقافات، وتتنوّع الأجناس والمعتقدات، ولكلّ وجهة مواليها حسب قناعاته وتصوّراته للحياة، غير أنّ القيم الإنسانية تتوحد وتتوطد بالإجماع والتلاقح والتوقير، ولا تدع مجالاً للانزواء الاختياري والإقصاء الذاتي. نسلّط الضوء على معطى إيجابي في نمط عيش مختلف، بعيداً عن الانبهار والتبجيل ونرجو أخذ العبرة ودعوة العقول إلى التدبّر للمساهمة في صنع التغيير.
في المنطقة العربية العزيزة، يبدو أنّ التفاعل مع الزمن ينحو أكثر إلى السلبية والعقم، إذ إنّ واقع انصراف سنة وقدوم أخرى لا يهم، فالأمر سيان، معظمنا لا يكترث بصنع التغيير أو يؤمن على مضض بإمكانية خلق الفارق. تغيب شمس الحيوية الإيجابية دون إشراقة أمل، ونغدو يتامى فقدانها. حتى الأعياد الدينية تحظى بلحظات معدودة من الفرح في غياب بيئة تميل عناصرها النشطة إلى الهدم أكثر منه إلى البناء، إذ سرعان ما تتلاشى مع هول سواد غيوم الطاقة السلبية المتسيّدة التي تكتم الأنفاس وتجهز على الأمل في رحم انبعاثه.
ثمّة روح انهزامية مستقرة في الأذهان منذ زمن سحيق تتوارثها الأجيال وتحول دون الخوض في المستقبل بكلّ تبصر وتفاؤل وإقدام
يسود الحديث عن علامات الساعة والدنيا الأخروية بالقفز عن الحياة الدنيوية وتبخيس قيمتها بحكم سريع مختزل لا يناله النقد أو التدبر. ثمّة روح انهزامية مستقرة في الأذهان منذ زمن سحيق تتوارثها الأجيال وتحول دون الخوض في المستقبل بكلّ تبصر وتفاؤل وإقدام. أيضاً، ثمّة ترفّع غريب عن عناصر الواقع المعيش وتعطيل لمبدأ الأخذ بالأسباب من أجل صناعة الحياة وإعمار الأرض. وهذا ربما يجد جذور حضوره في التعلّق الشديد بالماضي أكثر من التطلع نحو المستقبل، والزهو بأمجاد الأجداد والإعراض الضمني عن مساءلة إسهام الذات، وشيوع بنيات ذهنية ونفسية منهزمة غير قادرة على مواجهة تحديات الحاضر، دون أن ننسى سطوة العاطفة على العقلانية وهيمنة البنيات الفكرية الجامدة واشتغال أثر بعض التأويلات الفقهية المتشدّدة وفوضى في المفاهيم (الزهد والقناعة مثلاً)، ووقع تراكم الانتكاسات والخيبات، وفقدان الثقة في النفس والإعراض عن المبادرة.
من النافل القول إنّ الإعراض عن الهدف والسعي نحو صناعته لا يجتمعان، لذلك لا مناص من الخوض في إجراء قطيعة مع أنماط الفكر الانهزامي الشائع والتأسيس لبيئة حركية، نواة منظومة قيمها الاجتهاد والتطلع، والنزوع نحو الانفتاح والتعددية، ومصارحة الذات بحقيقة اضطراباتها النفسية والذهنية.
في الإقبال على الحياة صناعة للأمل وتطلّع لبناء المستقبل وإعمار الأرض والإيمان الفعلي بمبدأ الأخذ بالأسباب من أجل بناء مجتمع حداثي معرفي وتموقع أفضل بين الأمم وإسهام في تراكم العطاء الإنساني وفرض للاحترام وصون للكرامة.