الإخوة الأعداء: حول الخلاف السُّني الشيعي وأمل الوفاق
ثمّة مشهدان، الأول مثال أفلاطون، مجموعة من العميان أحاطوا فيلاً كبيراً، كلّ واحد منهم تحسّس جزءاً فيه، فمن لامس رجله ظنّها شجرة، ومن مرّ على خرطومه خُيّل إليه أنه عصا، ومن تلمّس أنيابه حسبها سكيناً. أذكر من القصة أنّ أفلاطون قال إنّ كلاً منهم رام جزءاً من الحقيقة، لا الحقيقة كلها، كذلك البشر يرومون أجزاءً من الحقيقة، إن اجتمعت كقطع البازل كوّنت صورة، قد تكون أقرب إلى الكمال والحقيقة.
المشهد الثاني، يذكره المؤرخ والفيلسوف العراقي، عليّ الوردي، في أحد مؤلفاته، حيث تعارك عربيّان مسلمان (سُني وشيعي) في أحد البلدان الأوروبية، مرّ غريبٌ من أمامهما، فاستفسر عن سبب العراك، فأخبره أحدهما عن سبب الخلاف، وهو قصة الحسين ويزيد، فاقترح الرجل أن يستدعيا الحسين ويزيد لحلّ النزاع، ولكن ما إن أخبراه بأنّ القصة مرّ عليها أكثر من 1400 عام، ضحك الرجل، قائلاً: "أظن أن مكانكما في مشفى الأمراض العقلية".
لكن ما علاقة المشهدين ببعضهما؟ في عام 1743م عقد الحاكم الصفوي، نادر شاه، مؤتمراً في النجف، للتقارب بين المذاهب الإسلامية، السُّنية والشيعية، أثمر ذلك المؤتمر بوادر سمحة بين الطرفين، لكنها لم تدم، فسرعان ما عاد الخلاف والتوظيف المذهبي السياسي، واستشرى الصراع بوفاة الإمبراطور الصفوي نادر شاه، الذي وُلد في تركمان من أصل سُني!
في عام 1961م، أصدر شيخ الأزهر الأسبق الإمام المُجدّد، محمود شلتوت، بياناً يُجيز فيه التعبّد على مذاهب الشيعة الاثني عشرية والإمامية والزيدية، وأنّ الأصل في الإسلام لا تمذهب ولا تعصب. كذلك أُدرجَت إلى يومنا هذا، في مناهج الأزهر دراسة الفقه الجعفري وأحكامه ونصوص أئمته.
مسألة الخلافة والإمامة والميراث، لا شأن لها بالدين من قرآن وسنة، فكلّ منّا يدّعي احتكار كتاب الله وسنة نبيه!
واللافت، أنّ التقارب لم ينتج إلا من تدخل سياسي، والصراع لم يحدث قط إلا من توظيف سياسي، والخلاف الواقع، إن رُمنا لأصله، وجدناه سياسياً بحتاً، فمسألة الخلافة والإمامة والميراث، لا شأن لها بالدين من قرآن وسنة، فكلّ منّا يدّعي احتكار كتاب الله وسُنّة نبيه!
ما أشبه اليوم بالبارحة!
تلك الصورة الماثلة أمامنا لشيخين معمّمين، أحدهما شيعي والآخر سُني، لو دققنا فيها لوجدنا فسيفساءها مؤطرة بدوافع سياسية؛ شكلتها الأحزاب السياسية، ونفخت فيها من روحها صراعات الحُكم منذ الأمويين والعباسيين والفاطميين والبويهيين والسلاجقة والصفويين والعباسيين؛ فهي صورة أقرب إلى المجالس السياسية منها إلى المجالس الدينية.
ندفع الثمن في صورة جهل وغضب وتعصّب وتطرّف ودماء منثورة في كلّ مكان، تحت مسمّى الصراعات الطائفية والمذهبية
بغضّ النظر، والطرف، والسمع، والبصر، والشم، والحس، والحدس، عن ماضٍ لم نشارك في صناعته بأيدينا، وخلافات لم نحضرها نحن ولا أهلونا، مَن الذي يدفع الثمن اليوم؟ نحن وأطفالنا. ندفع الثمن في صورة جهل وغضب وتعصّب وتطرّف ودماء منثورة في كلّ مكان، تحت مسمّى الصراعات الطائفية والمذهبية. فهل من حل؟
هناك حلّان: الأوّل، القطيعة التامة مع التراث، وهي التي مثلها أدونيس في كتابه "الثابت والمتحوّل"، إذ رأى أنه تاريخ لن نقدر على تغييره، ولا فائدة منه اليوم، فلا بدّ من إنكاره أو استنكاره، كابن تحاشى التعرّف إلى أبيه وأمه، وسعى لبناء بيت جديد له، وترك القديم يتهدّم على ساكنيه.
وذلك الرأي في نظر العديدين، وعلى رأسهم الدكتور نصر حامد أبو زيد، ليس إلا إهمالاً لا تجديداً أو تحديثاً.
هناك حل ثانٍ، يقوله السيد محمد حسين فضل الله، في مقال له بعنوان "الوحدة الإسلامية بين الواقع والمِثَال": "قد يكون من الأفضل لنا أن نُفكر بالجوانب الواقعية التي يُمكن أن تُحيط بفكرة الحل، فنحن نجد في الداخل حواجز نفسية ذات حالة عاطفية سلبية، ومشاكل فكرية في نطاق تفاصيل المفاهيم الإسلامية العامة، وجزئيات الأحكام الشرعية، ومشاكل سياسية في نطاق الواقع الطائفي الذي يعمل على فرز المواقع السياسية تبعاً للطابع الطائفي المُتنوّع، ما يجعل للوحدة طابعاً عاطفياً وفكرياً وسياسياً، ومن الطبيعي أن تختلف وسائل المُعالجة وأدواتها وساحاتها وأشخاصها".
بعيداً كلّ البعد عن النظرة الطوباوية، يُقدّم لنا السيد مُحمد حسين فضل الله، حلاً شافياً، ألا وهو "المواجهة"، وليس الهروب كما جنح له أدونيس وسادة التحديث. أن نواجه ماضينا وتراثنا ونُطهّر ذلك الجرح الغائر، لا أن نُعمقه.
وكما قال تميم البرغوثي: "لنقرأ تراثنا بلا تقديس، فإننا سنحتاجه، رُبما أقرب مما نظن".