ماذا تعلّم الأديب العالمي من مذبحة غزة؟
منذ بداية الأحداث الجارية في غزة، وأنا مُعتذر عن الكتابة، وكي أكون صادقًا، لن أستطيع كتابة كلمة واحدة في إطار ما يجري؛ فكلّ ما يحدث أمام أعيننا يفوق الوصف والخيال، فأيّ كلمات ستعبّر عن مقتل 2000 طفل وأكثر؟ أيّة جملة في سطر مقال أو كتاب ستختصر قتل الحياة واغتيال الإنسانية؟
عكفت على مُتابعة الأحداث ومُشاركتها على جميع وسائل التواصل الاجتماعي، ورُبّ ضارة نافعة، فتلك الأحداث المأساوية أسقطت كلّ الأقنعة؛ فالمُناضل الكش، والمُثقف الهش، سقطا، وراحا يتبارزان في الخذلان والصمت على المجزرة والمذبحة المروّعة التي سُجلت بدماء الأبرياء في أسوأ صفحات التاريخ. فلا خشيّة من رقيب الدنيا أو الآخرة.
ولمّا كانت يساريتي، ومبادئي، ابنة قراءاتي، رُحت لأوّل الزارعين فيّ بذرة اليسار، السيد الدكتور علاء الأسواني، صاحب روايتي "عمارة يعقوبيان" و"شيكاجو"، باحثًا في منصته على إكس (تويتر سابقا) عن أيّ تعليق عمّا يحدث في فلسطين، فلم أجد، فطرحت عليه سؤالًا، لا أقصد ذمه أو مدحه: "لماذا الصمت؟ أوليس دور المثقفين والمُفكرين أن يتكلموا؟ فالصمت خيانة".
أحمد الله أنّ صوتي وصله، فجاءني رده عبر خاصية البلوك. نعم، لقد حظرني الدكتور الأسواني من متابعته، لم أطمع في ردّ أو جواب، إنّما طمحت منه أن يُشارك الناس رأيه.
أسقطت الحرب العدوانية ضد غزة كلّ الأقنعة؛ فالمُناضل الكش، والمُثقف الهش، سقطا، وراحا يتبارزان في الخذلان والصمت على المجزرة والمذبحة المروّعة التي سُجلت بدماء الأبرياء في أسوأ صفحات التاريخ
لن أكون مثل هؤلاء الذين يُتاجرون بتلك المواقف، فيقولون إنّ صمته اعتراف ضمني بالخيانة. لا، بل سأقول إنّ الدكتور علاء الأسواني أشدّ الناس إيمانًا بالديمقراطية، فهو المشهور بعبارته "الديمقراطية هي الحل"، وأشدّ الناس نقدًا لإسرائيل في رواياته وكتاباته ومقالاته. لكني أتساءل: أين ذهب كلّ هذا؟ أين رحل علاء الأسواني صاحب الصيحات المُندّدة والمُناهضة لجرائم الإسرائيليين؟ هل يئسَ؟ وهل لمثله أن ييأس؟
اليوم، لا أوجّه خطابًا مكرّرًا للدكتور الأسواني كوني أحدَ قرائه، أو كوني صحافيًا وكاتبًا شابًا، ولا حتى كوني يساريًا انتهجت الطريق بقراءتي لكتاباته. لكني أوجّه الخطاب كعربي ينتظر من أحد كُتابنا العالميين الحديث عمّا يحدث في فلسطين، وخاصة أنّ الدكتور الأسواني فرنسي الثقافة، فلغته الثانية هي الفرنسية؛ بالتالي، سيكون أقرب إليهم منّا في الحديث والكلام وسُبل الإقناع، وهذا واجب عليه فعله.
وفي تلك المُناسبة أودّ مُشاركتكم جزءًا من مقالٍ كتبه الدكتور الأسواني في الحادي عشر من فبراير/ شباط عام 2009، في جريدة الشروق المصرية، إبان حرب إسرائيل على غزة، بعنوان "ماذا تعلّم المصريون من مذبحة غزة؟"، يقول: "سوف يظل مشهد جثث الأطفال المُحترقة في غزة ماثلًا في ذاكرة المصريين إلى الأبد، فقد شكلت هذه المذبحة لحظة تاريخية فارقة، سقطت فيها أوهام، واتضحت حقائق قد يكون من المفيد أن نستعرضها.
أولًا؛ اتضح خلال المذبحة أن المصريين جميعًا ما زالوا يشعرون بانتمائهم العميق والمُطلق للأمة العربية الإسلامية.. وبالرغم من نزع المكون القومي من مناهج التعليم ووسائل الإعلام على مدى ربع قرن، وبالرغم من الحملات المستمرة منذ كامب ديفيد لقطع أواصر مصر العربية، فإن الأجيال الجديدة في مصر قد ورثت انتماءها العربي بالكامل.
ما أشبه اليوم بالبارحة؛ هي الصورة نفسها، لم تتغيّر، المجزرة نفسها، الضحية والجاني نفسيهما. لكن مَن سجّل تلك الكلمات لم يعد هو
ثانيًا؛ أظهرت المذبحة أن قدرة إسرائيل المعنوية على ارتكاب أبشع المجازر غير مسبوقة في التاريخ الحديث، باستثناء جرائم النازيين التي تستوحي إسرائيل الكثير من أساليبها، فقد وقف قادة إسرائيل يتحدثون بطريقة عادية، ويبتسمون في المحافل الدولية، بينما تقوم طائراتهم في اللحظة نفسها بإلقاء القنابل العنقودية والفوسفورية على الأطفال والنساء في غزة، وهذا مشهد بالغ الدلالة، لم يحس قائد صهيوني واحد بالذنب أو الأسف أو الندم، بل إن بعضهم بدا مزهوًا بالمجزرة.. وهذه الاستهانة بالحياة الإنسانية متسقة تمامًا مع الفكر الصهيوني الذي لا يعتبر الأغيار "غير الإسرائيليين" كائنات إنسانية مساوية في الحقوق والواجبات.
ثالثًا؛ بالرغم من تعاطف كثيرين من أصحاب الضمائر الحيّة في الغرب مع ضحايا المذبحة.. فقد آن الأوان أن ندرك، نحن العرب والمسلمين، أننا سوف نخوض دائمًا معاركنا في هذا العالم وحدنا.. فالدول الغربية كانت وسوف تظل دائمًا منحازة بالكامل لإسرائيل.. وقد صرح الاتحاد الأوروبي في بداية المذبحة بأن إسرائيل تخوض حربًا دفاعية، ثم رفض أن يرسل لجنة لتقصى الحقائق".
ما أشبه اليوم بالبارحة؛ هي الصورة نفسها، لم تتغيّر، المجزرة نفس، الضحية والجاني نفسيهما. لكن مَن سجّل تلك الكلمات لم يعد هو. بغضّ النظر عن باقي المقال الذي لو سردته لن يختلف عمّا يحدث حاليًا في المنطقة كثيرًا، كأنّ الأسواني بذلك المقال عَرَّى قضية عابرة للأزمان، بسيناريو مُتكرّر وأحداث لا تتبدّل؛ وتلك عبقرية الأسواني شئنا أم أبينا، لكنّي أود إنهاء التدوينة بسؤالٍ طرحه الكاتب في المقال نفسه: "والسؤال: لو أنّ الأطفال الذين أحرقتهم القنابل في غزة كانوا أوروبيين أو أميركيين.. ماذا كان المجتمع الدولي ليفعل حينئذ؟".
رغم أنّي أعرف الإجابة، ولا أقصد المُزايدة على أحد، لكني وددت لو أجاب الأسواني عن سؤاله بنفسه..
وفي الأخير.. الديمقراطية هي الحل.