الأسلحة السينمائية الفاسدة في الصراع العربي الإسرائيلي (1)
هل استخدمت السينما المصرية كسلاح في الصراع العربي الاسرائيلي؟
بالتأكيد نعم.
هل كانت سلاحاً فاعلاً وقوي التأثير؟
بالتأكيد لا، أو مع الأسف الشديد لا.
هذه هي النتيجة التي سيتوصل إليها أي دارس لدور السينما المصرية في الصراع العربي الإسرائيلي طيلة الخمسين عاماً الماضية، بل إنّ الدارس للأفلام التي عالجت القضية الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وغيرها من الأراضي العربية سيدرك أنّ هذه الأفلام كانت في أغلب الأحيان سلاحاً فاسداً، ليس حتى كالأسلحة الفاسدة في حرب 48 التي يشكك البعض في صدقية وجودها ويزعمون أنها كانت سردية مشكوكاً فيها استغلها ضباط يوليو للنيل من العهد الملكي، فقد كانت الأفلام السينمائية في بعض الأحيان سلاحاً ارتد إلى صدورنا بدل أن يتوجه إلى صدر الخصم، ولن أجد مثالاً أسوقه للتدليل على هذا أفضل من فيلم "48 ساعة في إسرائيل" للممثلة الشهيرة نادية الجندي التي تحب أن تطلق على نفسها لقب "نجمة الجماهير"، وهو الفيلم الذي كانت تحاول به استثمار نجاحها التجاري السابق في فيلم "مهمة في تل أبيب" حيث واصلت في الفيلمين لعب شخصيتها المفضلة: المرأة قاهرة الرجال، وبدلاً من قهرها في أفلامها السابقة لتجار المخدرات ومعلمي وكالة البلح والمدبح، قررت أن تقهر رجال "الموساد" والجيش الإسرائيلي على الشاشة.
كان استقبال قطاع من جمهور السينما لفيلم نادية الجندي الأول حافلاً فأغراها ذلك بتكرار التجربة، بل وباقتحام مجال الأفلام التاريخية بعد ذلك حيث أعاد بعض كُتّاب السيناريو الكبار كتابة تاريخ مصر خصيصاً لها، لكن استقبال الناس لمهمتها الثانية في إسرائيل خيّب توقعاتها، حيث فشل الفيلم فشلاً ذريعاً وتحوّل إلى مثار سخرية للنقاد وللجمهور على حد سواء، بل وجلب السخرية للفيلم الأول بأثر رجعي. لا زلت أذكر رد فعل الجمهور الذي حضرت معه أحد العروض الجماهيرية لفيلم "48 ساعة في إسرائيل"، حيث كانت نادية الجندي تؤدي على الشاشة مشاهد يفترض أن تثير حماس المشاهدين وتجعلهم يتسمرون في كراسيهم خوفاً على البطلة التي تضحي بحياتها من أجلهم، بينما كان جمهور السينما يكاد ينفجر من الضحك على التعليقات التي أخذ عدد من الشباب الحاضرين يطلقها سخرية من الفيلم وبطلته، لن أنسى تعليقاً أطلقه شاب يجلس خلفي بينما كانت نادية الجندي ترقص رقصة وطنية الدافع من أجل إلهاء الإسرائيليين والتأثير على قدرتهم على التركيز، ليقول الشاب بصوت عالٍ: "والنبي احنا نستاهل اللي بتعمله إسرائيل فينا"، وحين شعر أنّ تعليقه يمكن أن يفهم خطأ، أضاف قائلاً: "بقى إحنا هنغلب إسرائيل بالرقص.. ما كانش حد غُلُب"، ليكون تعليقه رداً ناجعاً على محاولة الاستثمار السينمائي الغبية للصراع العربي الإسرائيلي، والتي لم تكن نادية الجندي أول ولا أبرز من قام بها، وهو ما أحاول تتبعه في السطور التالية.
في عام 1999 كنت أحاول إقناع أحد المنتجين بإنتاج أول سيناريو كتبته لفيلم كوميدي يحمل عنوان "سيد العاطفي" وكان يتطرق ضمن أحداثه إلى قضية الوجود الإسرائيلي في مصر بعد اتفاقيات السلام والتي جعلت الإسرائيلي الذي كان يعامل معاملة العدو لعقود من الزمن يصبح من حقه أن يزور مصر بكل حرية، وهو ما يرفض تقبله بطل الفيلم الذي لقي والده الشهيد حتفه على يد الإسرائيليين، فيقرر في مرحلة ما أن يشترك في مظاهرة أمام منزل السفير الإسرائيلي بالقاهرة، وبعد أن انتهيت من حكاية الفيلم للمنتج قال لي إنه معجب بأغلب تفاصيل الحكاية التي سمعها، ويرى أنها ستصنع فيلماً ناجحاً، لكنه أضاف: "بس بلاش حكاية إسرائيل دي أصلها بقت قديمة بعد ما محمد هنيدي حرق علم إسرائيل في فيلم (صعيدي في الجامعة الأميركية) ـ والذي تم تقديمه قبلها بعام ـ الناس هتقول علينا بنقلده.. ما تيجي نعمل المظاهرة قدام بيت السفير الأميركي هتبقى جديدة وهنبقى أول ناس بنعملها"، وبعد نقاش طويل لا أريد أن أرهقك بتفاصيله، حاولت أن أقنعه بأهمية أن يقرأ السيناريو، ليدرك أنّ حكاية التحول من إسرائيل إلى أميركا لا علاقة لها بأحداث الفيلم وقصة بطله، انتهى النقاش بأن قال لي: "باقول لك إيه ما تشوف لنا حاجة بعيدة عن إسرائيل، الناس مش ناقصة قرف جوه وبره"، لكنني شاهدت نفس المنتج بعد سنتين حين اندلعت انتفاضة الأقصى عقب قتل الطفل الفلسطيني محمد الدرة يصرح لعدد من القنوات التلفزيونية أنه يحاول منذ سنوات إنتاج فيلم ضخم يدين إسرائيل وجرائمها، لكنه لم يجد اهتماماً من كتاب السيناريو بالقضية.
لكن ذلك المنتج على لعبه بالبيضة والحجر وتغيره طبقاً للحظة الراهنة، كان أرحم بالنسبة لي من الذين قرروا أن يقدموا أعمالاً تعالج الصراع العربي الإسرائيلي بشكل خاطئ يضر بالقضية الفلسطينية أكثر من دعمه لها، ولعل أبرز مثال لهذه الأعمال في رأيي هو فيلم "فتاة من إسرائيل" الذي تم إنتاجه في عام 1999 والذي بدأت الصحف تنشر عنه أخباراً في بدايات عام 1997، حين اشترت شركة الإنتاج التابعة لعائلة راضي قصة "الوداعة والرعب" للكاتب المصري محمد المنسي قنديل، وأسندت إخراج سيناريو "ظل الشهيد" المأخوذ عن القصة إلى المخرج الشاب إيهاب راضي آخر العنقود السينمائي في العائلة وابن عميدها المخرج محمد راضي الذي أخرج واحداً من أهم الأفلام المصرية عن حرب أكتوبر، وهو فيلم "أبناء الصمت"، وقالت الأخبار التي نشرتها صفحات الفن إنّ السيناريو الذي قدمه إيهاب راضي للرقابة يواجه مشاكل عنيفة مع الرقباء بسبب تطرقه إلى العلاقات بين مصر وإسرائيل بشكل جرئ وغير مسبوق، وإنه سيُعرض على المجلس الأعلى للرقابة المكون من عدد من كبار المثقفين ليبت في أمر السيناريو، وبعد أسابيع نشرت الصحف أنّ المجلس الأعلى للرقابة وافق جهاز الرقابة في اعتراضه على السيناريو وطلب إجراء تعديلات جذرية فيه دون أن يتم نشر أي تفاصيل عن التعديلات المطلوب عملها على السيناريو.
ثم هدأت الضجة ودارت الأيام، وحقق فيلم "صعيدي في الجامعة الأميركية" نجاحاً ساحقاً، واحتجت إسرائيل رسمياً على مشهد حرق العلم الإسرائيلي ضمن أحداثه، وتحدث بعض المراقبين عن المناخ السياسي المتوتر بين مصر وإسرائيل والذي كان سبباً في أن يرى مشهد كهذا النور لأول مرة منذ أن تم توقيع معاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، وهو ما أحدث حالة من التفاعل غير المسبوق في دور العرض كان لها دور في زيادة جماهيرية الفيلم ليحقق أعلى إيرادات في تاريخ السينما المصرية، وصلت في نهاية عرضه إلى حوالي 27 مليون جنيه جاءت من عرضه داخل مصر فقط، وبعدها بأشهر نشرت الصحف والمجلات الفنية في عام 1999 أخباراً عن انتهاء مشكلة فيلم "ظل الشهيد" مع الرقابة، وأنه سيرى النور أخيراً كفيلم ضخم الإنتاج قال عنه مخرجه إيهاب راضي الذي اشترك في كتابة السيناريو إنه "الأول في تاريخ السينما المصرية الذي يتعرض لقضية الصراع بين مصر وإسرائيل بشكل حقيقي وجرئ".
بعد أسابيع من تصوير الفيلم وقبل نزوله إلى دور العرض أعلن فريق عمل الفيلم فجأة عن تغيير اسمه إلى "فتاة من إسرائيل"، وقال لي مخرج الفيلم في تصريحات نشرتها في مجلة "المصور" إنّ التغيير جاء لأنّ اسم "ظل الشهيد" "اسم غير جماهيري وأدبي أكثر منه سينمائي"، لكن رغبة صناع الفيلم في التواصل مع جمهور لا يحب العناوين الأدبية باءت بالفشل، فقد حقق الفيلم خسائر ساحقة وذاب من دور العرض بعد أن فشل في الوصول إلى حاجز المليون جنيه بعكس ما كان يراهن عليه صانعوه، وبرغم أنه حظي بمشاركة عدد كبير من النجوم على رأسهم محمود ياسين وفاروق الفيشاوي ورغدة وخالد النبوي وحنان ترك، وسبقته دعاية جيدة قدمتها "شركة شعاع للإنتاج السينمائي" التي قامت بتمويله بسخاء تحدث عنه أصحاب الشركة الليبيون كثيراً في وسائل الإعلام بوصفه تعبيراً عن هوية الشركة ورغبتها في إنتاج أعمال مختلفة تجسد قضايا الوطن العربي وهمومه.
...
نكمل غداً بإذن الله.