الأسرة العربية أسيرة حداثة مبتورة
مع دورها كفعل تقرير مصير وكنشاط فاعل، تعاني معظم الأسر العربية اليوم، إذ تكتفي بالمشاهدة والمراقبة لبانورامية الحياة دون أن تدخل غمار الحداثة وما بعدها إلا في مظاهرها الشكلية المبتورة من حيث الاستهلاك والسباق نحو التسلّح بالترند، ما يعطي ديناميكية الأسرة أدرنالين الفخر والتحيّز نحو جزئية من الحداثة أو اتجاه ما منها.
إنّ الأسرة العربية في صراع أدبي لا علمي مع الحداثة، بحيث إنّها تريد الحفاظ على إرثها الديني وتقليدها الاجتماعي مع تبنيها قيم العرض والطلب التي يفرضها نظام سياسي واقتصادي رأسمالي، حيث تناست هذه الأسر أنّ فعل الحداثة والتحديث يستدعي إعادة قراءة التراث الديني وإعادة نبش الجذور الاجتماعية لمعرفة تكوينها ومكوّناتها، فالإنتاج والاستهلاك لا يجعلان منّا حداثيين، بل هما العود على البدء؛ أيّ ذلك الإنسان القديم الذي يعيش ليستهلك دون التفكير في منطلقات أكثر جدية في رؤيته للوجود من حوله.
ولكي تكون الأسرة العربية حدثاً حداثياً متكامل العناصر المناسبة، لا بدّ أن تضع أطراً خاصة بها، تعمل الحداثة في فلكها، فنحن لا نعني أبداً زجّ تلك الأسر في معتقل غربي حداثيوي مشدّد الحراسة، بل نعني أخذ ما يناسبنا من سياقاتها وسردياتها لخدمة صيرورة مجتمع عربي "كلاسيك مودرن".
وانطلاقاً من ذلك، تركت الحداثة المبتورة بِسماتها المعرفية والبنيوية، تأثيراتٍ واسعة على الأُسرة. ويمكن توضيح تلك التّأثيرات والتّغييرات الحاصلة من خلال دراسة العلاقات المؤسّسية ودراسة وساطة الأفراد الذين هم أعضاء في الأُسرة، وفي مؤسّسات أخرى في الوقت نفسه. نبدأ الآن تحليل أثر الحداثة المبتورة على عناصر الأسرة وعلاقاتها في صيرورتها الوجودية.
أثرها على الأب: جعلت الحداثة من الأب ماكينة إنتاج أو صرافاً آلياً، بحيث إنّ أبوته لا تُمارس إلا من منطلقات اقتصادية صرفة، بل حتى حنانه وحمايته حُوصرا بالتعبير المادي لا الحسّي والعاطفي، وذلك بواسطة الادخار والاقتصاد والتوفير والبذخ. بالإضافة إلى ذلك صار الشارع أو العالم الخارجي بيت الأب الرئيسي، فهو يمضي فيه الوقت أكثر مما يمضيه في بيته العائلي، فيأخذ بالعيش العاطفي خارج الحدود الأسرية؛ أي يكوّن علاقات متعدّدة ومكثّفة لتدعم شعوره الأبوي ولتغذية مسؤوليته كرجل يستطيع التأثير خارج البيت العائلي بما أنّه لا يستقرّ في بيته على نحوٍ ملائم.
المجتمعات ذاهبة دون وعي منها إلى عالم من الأفراد بديلاً لعالم المجتمعات
أثرها على الأم: بما أنّ الأب في مناجم الإنتاج، فالأم تعاني من الوحدة والقلق والاكتئاب والإحباط بسبب النقص الحاد في إشباع حاجياتها الإنسانية؛ العقلية والعاطفية والتواصلية والجسدية، ما يدفع إلى تكوين غضب شديد يتكوّر في زوايا البيت "النكد"، فمن حين لآخر تفتعل مشكلة من لا شيء مع كلّ شيء دفاعاً عن كلّ شيء فيها، إذ تبدأ في السؤال المصيري عن قوامها وكيانها في الأسرة، ولمّا تتلّقى الإجابة المناسبة عن ذاتها تقرّر الطلاق، أو الانتحار العاطفي بقتل نفسها تضحيةً لاستمرار العائلة، أو البحث عن شريك إلكتروني أو شخصي سرّي بوسائل ملائمة تستطيع أن تكون العشيقة والمعشوقة والعاشقة، أيّ تعوّض ما ينقص كيانها البشري من حاجات إنسانية. كما أنّ الانتشار الواسع لمعايير الجمال المصطنعة عبر هذه الوسائل صعّب كثيراً على المرأة والزوجة مهمتها داخل البيت وخارجه، وألزمها بواجبات جديدة لم تكن ملزمة بها النساء في الأجيال السابقة من اهتمام بالمظهر والجمال الخارجي بغية الحفاظ على الزوج، وعلى تماسك الأسرة.
أثرها على الأبناء: إنّ وسائل الإعلام وثقافة إغراء الصورة أصبحت معاشاً يومياً للناس جميعاً وللشباب خصوصاً، فمع أثر الحداثة المبتورة السابق على الأب والأم؛ ينشأ جيل تربيه التكنولوجيا وسوق العمل، جيل متنكّر لكلّ ما هو شرقي صالح أو طالح، أصيل كان أو فاسد، يريد أن يحصل على إجاباته الخاصة فيرتمي في أحضان الحداثة المبتورة جملةً وتفصيلاً، فلم يعد الأبناء أثراً من الحداثة بل أصبحوا مشاركين وفاعلين فيها، ما يدفعنا إلى القول إنّ الحداثة المبتورة تلك تعيد إنتاج نفسها بنفسها من خلال ضرب الهرم الأسري، وتثبيت قواعدية تصلح للممارسة الحداثوية المبتورة في كلّ مكان وزمان دون أن يكون لها هرم إنساني أو قدوة بشرية ما توجّهها. فقط محركات للقاعدة مثل التكنولوجيا وتبعاتها.
إنّ نموذج الحداثة المبتورة أسهم بشكل كبير في تصدّع مؤسّسة الأسرة وحوّلها في أمثلة كثيرة إلى فضاء للنزاع والعنف، وأفقدها منسوبها في العواطف والإيجابية والعلاقات التواصلية، حيث إنّ أغلب الظن أنّ المجتمعات ذاهبة دون وعي منها إلى عالم من الأفراد بديلاً لعالم المجتمعات. قد يطول الأمر، ولكن وتيرة التغيّرات تدعم تحليلنا، إلّا إذا رفضت المجتمعات اليوم موقف المتفرّج ودافعت عن خليتها الأولى وجعلت منها موضوعاً للفكر والتدارك.