هل يعترف الأزواج بأنّ النساء مساهمات في الإنفاق على الأسر؟

07 نوفمبر 2024
+ الخط -

تختلف معايير اختيار الزوجة من رجلٍ الى آخر. فبينما يبحث البعض عن المرأة الجميلة التي تُشعر الزوج بنشوة امتلاك "الدرّة المكنونة"، يميل البعض الآخر إلى مراعاة قوانين المصاهرة التي تفرضها بعض العائلات أو المجتمعات العشائرية على الرجال والنساء على حدٍّ سواء، فتكون الزوجة في مثل هذه الحالة مساهمةً في تحسين موقع الرجل اجتماعيًا.

غير أنّ هذه المعايير (الجميلة، الولود، القرابة...) سرعان ما تغيّرت، فلم تعد المرأة المطلوبة هي ذات الدين والخلق... ففي واقعٍ اتّسم بتفشّي الصراعات والحروب وتعدّد الأزمات المركّبة وما خلّفته من صدماتٍ نفسية وتحوّلاتٍ اجتماعية، برزت معايير جديدة فرضها النظام النيوليبرالي الجديد، فبات الرجل مدعوًا إلى البحث عن المرأة العاملة التي تستطيع أن تتحمّل معه مسؤولية إعالة الأسرة، إذ ما عاد بإمكان أغلب الرجال الاضطلاع بالأدوار المتوقّعة منهم اجتماعيا، وأوّلها القوامة المادية التي تعتبر مكوّنًا رئيسًا من مكوّنات الرجولة.

غير أنّ إكراهات الواقع التي أملت على الرجل اختيار الزوجة المُقتدرة ماديًا والمتمكنة اقتصاديًا وصاحبة المرتب ''المحترم'' لم تصاحبها تغييرات على مستوى الوعي الذاتي وصياغة الخطاب. فقد ظلّ الزوج في الغالب مصرّا على التباهي أمام الجميع بأنّه يدفع مصاريف المدارس والإيجار وحصص الدعم والرياضة ومتطلبات التسلية وغيرها. وكلّما أثبت الزوج قدرته على الإنفاق وتحمّل مسؤولية رعاية الآخرين، استطاع أن يحافظ على موقعه في سلّم التراتبية الهرمية الذكورية.

إكراهات الواقع التي أملت على الرجل اختيار الزوجة المُقتدرة ماديًا والمتمكنة اقتصاديًا وصاحبة المرتب ''المحترم'' لم تصاحبها تغييرات على مستوى الوعي الذاتي وصياغة الخطاب

وليس الاستمرار في تبنّي الخطاب التقليدي المكرِّس لدور الزوج/ الأب الحامي والمُنفِق والقوّام سوى محاولة لتجميل صورة الرجل اجتماعيًا وتثبيت أدواره وامتثاله للنظام الجندري. أمّا التشبّث بضمير الأنا ونسبة كلّ الأفعال، بما فيها الإنفاق والعمل، إلى الرجل دون سواه، فهو سلوك دالّ على صعوبة إقرار أغلبهم بأنّ الزوجة صارت مساهمة في تحمّل المسؤولية، وهي بالفعل شريكة في الإنفاق.

إنّ حجب هذا الواقع ونكران الإرباك الحاصل على مستوى الأدوار والهويات.. هما شكل من أشكال نفي التغيّرات الحاصلة في الواقع، من جهة، ومحاولة لطمس كلّ علامة دالة على خوف الرجل من ضياع امتيازاته وموقعه وشعوره بالحرج أو الخجل، من جهةٍ أخرى. ويترتّب عن التمادي في حجب الأزمة اتساع الفجوة بين ما يُعلن عنه الخطاب، أي مركزية الرجل باعتباره المُنفِق في مقابل تبعية المرأة له وتهميش أدوارها، وبين ما يُضمره، أي تغيير مكانة الزوجة، إذ أضحت شريكة في الإنفاق.

وهكذا نتبيّن أنّ حفظ ماء الوجه يتطلّب من الزوج صياغة خطاب مراوغ يلغي دور الزوجة وفاعليتها ويؤبّد مكانتها في الأسرة باعتبارها المُنفَق عليها والتابعة، فهي "تحت رجل" مقتدر وصاحب سلطة، من حقّه أن يأمرها فتُطيع ويجوز له أن يراقبها ويؤدّبها و...

مواجهة النظام البطريكي تبدأ بالاعتراف بأنّ الزوجة صارت مُنفقة

إنّ للوجاهة الذكورية أحكاماً تفرض على الأب أن يذكّر أبناءه بأنّه المُنفق الوحيد، ومن حقّه أن يطالبهم برد الجميل: عاجلًا بالتدرّج في سلّم اكتساب العلوم وتحقيق النجاح، وآجلًا بإكرام الأب الذي ضحّى بنفسه وأحلامه من أجل الآخرين. وتفرض أحكام المحافظة على الوجاهة الذكورية على الرجال أن يتمسّكوا بهذا الخطاب المُثبّت أدوارَهم التقليدية ومكانتَهم رغم وعيهم بأنّ الزمن قد تغيّر ولم يعد الحال على ما كان عليه. إنّه تمرين يومي واختبار عسير لا سيما إن اعترضت الزوجة وذكّرته بأنّها تساهم معه في تحمّل كلّ الأعباء المادية والنفسية وغيرها.

ولكن أنّى للزوج أن يعترف بأنّ الزوجة صارت شريكة في العمل وتحمّل المسؤولية، بل إنّها قد تحوّلت في كثير من الحالات إلى امرأةٍ معيلة للأسرة.. قد تصمت عندما تراه يتباهى بالإنفاق على أهله فلا تعارضه حتى يطمئن فؤاده ولا تُخدش كرامته أمام الرجال.

إنّه تمرين عسير لمن نشأ على خطاباتٍ تُعلي من شأن الرجال القوّامين وتربط الاحترام والسلطة والهيمنة بالقدرة على الإنفاق وترسّخ مركزية أدوارهم، ولذلك حافظت أغلب التشريعات المعاصرة على منزلة الرجل باعتباره "ربّ الأسرة" والراعي والمنفق..

إنّ من نشأ في ثقافة تميزية لا تعترف بكلّ أدوار النساء ولا تثمّن أعمالهن غير المأجورة يجد صعوبة في تغيير خطابه، من خطاب إنكار للديناميكيات الجديدة وحجب لتغيّر مواقع النساء إلى خطاب إقرار بأنّ مواجهة النظام البطريركي تبدأ بالاعتراف بأنّ الزوجة صارت منفقة: أحيانًا باختيارها الواعي بأنّ الحياة الزوجية تقوم على الشراكة، وفي الغالب مجبرة إذ لا يستقيم العيش في ظلّ سياسات نيوليبرالية وأزمات سياسية واجتماعية هدّدت مواقع الرجال إلاّ بالتعاون وشدّ الأزر.