اغتيال السمعة

08 اغسطس 2024
+ الخط -

«إنَّه نحن، هتلر الكاثوليكي، من ارتكب المحرقة». يقول في أحد الفيديوهات المتداولة على نطاق واسع أخيرًا «الأب بيير»، القس الكاثوليكي الشهير والمحبوب فرنسيًا، بسبب حياة أمضاها في النضال، أولاً ضد الاحتلال النازي لبلاده، حيث إنَّه كان ناشطًا في المقاومة، وذُكِر له إنقاذ مواطنين يهود كثر من الترحيل إلى غرف الغاز بتزوير هويات تخفي ديانتهم، وتالياً من أجل حقوق المشردين، ومن أجل هؤلاء انتزع القس في الخمسينيات من البرلمان الفرنسي قانون «هدنة الشتاء»، وهو قانون لا يزال ساريًا حتى اليوم، وينص على عدم جواز طرد مستأجر من مسكنه خلال هذا الفصل نظرًا لعدم إنسانية ذلك التصرف في فصل يُعتبر قاسياً جدًا على من لا يملكون مأوى.

لكن ما هي مناسبة الكلام عن الأب بيير، مؤسس «عماووس» أشهر وأفضل المنظمات الخيرية في فرنسا القرن الماضي؟ وما هي مناسبة تداول ونشر هذا الفيديو؟

بدا أنَّ ذلك كان في معرض الرد على أخبار انتشرت بشكل واسع منذ حوالي الشهر، وتداولتها الصحف وأهمها تقرير نشرته صحيفة لوموند الفرنسية، اتهم فيه القس بالتحرش الجنسي بعد وفاته بعشرين عامًا تقريبًا!

وبغض النظر عن أخلاقية نشر تقرير كهذا بعد وفاة «المتهم»، أي في ظل استحالة دفاعه عن نفسه، إلا أن الكثير من المواقع والصحف أعادت النشر، وقامت «عماووس» نفسها بنشر بيان اعتذرت فيه عن أفعال مؤسسها «لأننا اقتنعنا بكلام المشتكيات وما حصل لهن». كما كانت مناسبة إضافية للكنيسة الكاثوليكية لتثبيت سياستها (المشكورة أصلاً) والتي اعتمدتها أخيرًا بالاعتراف بأخطاء وذنوب من يمثِّلونها، وكان لنا في لبنان نصيب من ذلك.

لكن، لِمَ هذا التقرير الآن؟ وما علاقة الفيديو السياسي الذي يتحدث عن مسؤولية الكاثوليك في محرقة اليهود أعلاه، بتهمة التحرش الجنسي؟ ولِمَ انتشر في معرض الدفاع عنه؟

متابعة المشاهدة تزودنا بالجواب. يقول القس «وعندما انتهينا (من ارتكاب المحرقة) قمنا بتدفيع الثمن للمسلمين الذين لا علاقة لهم بذلك». ثم يُضيف في هذا التسجيل الذي يعود إلى ثمانينيات القرن الماضي «لم يشارك أي مسلم في المحرقة، ولقد خدعنا الفلسطينيين حين قلنا لهم، ابتعدوا لبعض الوقت وستعودون إلى بيوتكم وأراضيكم. لقد كذبنا عليهم».

كان ربط ذلك الفيديو بتهمة التحرش في معرض الدفاع عنه للقول إن اغتيال سمعته بعد وفاته هو بسبب مواقفه المنتقدة لمسؤولية الغرب في مأساة فلسطين والمحرقة سواء بسواء، يدعو للتساؤل. فهل تُبرِّر أفعال الرجل البيضاء للفقراء والمظلومين أفعالاً أخرى تظلم فئة أخرى من البشر؟ بالتأكيد لا.

لكن ومع ذلك، فإن أمورًا تحيط بإثارة تهمة القس في هذا التوقيت بالذات، تدعو فعلاً إلى الريبة. أولاً، وبغض النظر عن رأيي الشخصي بتعريف التحرش خاصة في فرنسا التي تكاد تقدس العري وتحث ثقافتها على تقدير كل أشكاله، فإن القس كان قد سبق له قبل وفاته بسنتين في العام 2003 أن قدم اعتذاره لسيدة اشتكت لتحرشه بها.

قام العديد من محبي القس في فرنسا بوضع القصة في سياق الصراع السياسي بين مناصري إسرائيل ومناصري فلسطين على خلفية معركة الرأي العام الجارية بسبب حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة

اعترف الرجل وغُفِر له. فلِمَ إعادة هذه التهمة إلى الواجهة اليوم؟ قد يقول قائل إن ذلك بسبب شكايات جديدة، وهذا معقول، فقط لو كان الرجل لا يزال حيًّا ليسأل عن التهمة، وليستطيع تاليًا الدفاع عن نفسه. لكن الاستناد إلى اعترافه بتهمة سابقة سبق له أن اعتذر عنها لإثبات تُهم أخرى بحقه بعد وفاته بعقدين تقريبًا، هو عمل من السهل تصنيفه ظالمًا. هذا إذا لم نتساءل عن سبب تقديم تلك السيدات لشكايتهن الآن في حين أن ما قيل إنهن تعرضن له كان في... الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي!

فإن كان ذلك قد حصل وهن لنقل في العشرين من أعمارهن، أي منذ خمسة وستين عامًا، أي أن أعمارهن الآن، لو كن ما زلن على قيد الحياة، تتراوح بين خمسة وثمانين وتسعين عامًا؟ وقد تذكرن اليوم أن يشتكين؟ ولم لم يستفدن من اعترافه بالذنب تجاه إحداهن منذ عشرين عامًا وقد كان حيًّا، للانضمام إلى الشكاية؟

هل هذا ممكن؟ كل شيء ممكن، ولو أنَّه غريب.

وبالتحديد، إلى هذا الطابع الغريب، تشير الأصابع. مُضافًا إليه كل ما تقدم من لا أخلاقية ولا عدالة محاكمة إنسان بعد وفاته وحرمانه بذلك من الدفاع عن نفسه، والسياق والتوقيت. كل هذا جعل من هذه الواقعة مثيرة للريبة في أعين كثيرة، وقد وصفوها بمحاولة اغتيال السمعة.

وتعبيرًا عن هذه الريبة، قام العديد من محبي القس في فرنسا بوضع القصة في سياق الصراع السياسي بين مناصري إسرائيل ومناصري فلسطين على خلفية معركة الرأي العام الجارية بسبب حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة. فتداولوا هذا الفيديو للرجل في موضوع القضية الفلسطينية والمحرقة اليهودية، وذكَّر غيرهم بمساءلة الأب بيير يوم دفاعه عن الكتاب الممنوع للكاتب الفرنسي روجيه غارودي "الأساطیر المؤسسة للسیاسة الإسرائیلیة"، والذي شكَّك فيه بعدد اليهود الذين قتلهم النازيون في الحرب العالمية الثانية.

نحن بشر خطّاؤون لا شك، والأب بيير أعلن في شبابه أنَّه كان ضد نذور العفة التي تُفرض على الرهبان والراهبات في الكنيسة الكاثوليكية، لا بل إنَّه صرَّح في مقابلة بأنَّه خرقها مرات عدة، فالرجل كان متمردًا على الظلم من أينما أتى: إن كانت الكنيسة نفسها، أو كانت الدولة، التي أجبرها على تغيير قوانينها لمصلحة الأضعف في المجتمع. ولذلك كان له ذلك الموقف العادل من قضية المحرقة ومن اتخاذها حجة لمحاباة إسرائيل وظلم الفلسطينيين، إضافة إلى كراهية المسلمين. فالعادل يحاول أن يكون كذلك في أي قضية، ولهذا اعترف واعتذر بشجاعة وقد غُفِر له.

قد يكون من افتعلوا تلك الضجة اعتقدوا أن «جسم» القس «لبِيس» في موضوع التحرش، ومن السهل تشويه سمعته للإساءة إلى سمعة مناصري فلسطين، لكن جسم الدولة الفرنسية اليوم هو الآخر «لبِيس» في موضوع ارتكاب المعاصي الأخلاقية والقانونية في سبيل محاباة إسرائيل ولو كان ذلك على جثة رجل متحلِّلة لن تستطيع أسباب بيولوجية، الدفاع عن نفسها.