هل رأى الحزن سكارى؟ مثلنا؟
مع أنه من غير اللائق صبيحة العيد أن يعبس المرء في وجه المستبشرين بمستقبل ما زال يحتمل، على الرغم من كل الأخبار السيئة التي تواصل إمطارنا بها نشرات الأخبار، قليلًا مما قد يسرّ الخاطر، إلا أنّ الشعور بالذنب كان الإحساس السائد عشية الأعياد بين الساهرين المحتفلين ولو عائليًا، والإحراج خيّم على معايدات الميلاد ورأس السنة بكل أشكالها خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي. فكيف تجرؤ على محاولة الفرح، والناس على بعد خطوة جغرافية منك، إما قد تهدمت بيوتهم، أو محيت قراهم أو استشهد أحباؤهم؟ أو كل ذلك مرة واحدة؟
هكذا، تجد نفسك وقد اقترنت رغبتك باستراحة التقاط أنفاس ولو لوهلة الأعياد، بذلك الشعور الطاغي بالذنب، فذهب الأخير بتلك الرغبة، خصوصًا أمام استمرار إسرائيل بأفعالها المتوحشة، إن كانت على اللحم الحي للغزيين العاري حتى من مجرد سترة دافئة، أو في جنوب لبنان الذي تتلكأ في الخروج منه بموجب اتفاق وقف إطلاق النار لمزيد من تدمير بيوته وغاباته، أو على الأراضي السورية التي تتجرأ على دخولها والاستقرار في بعضها.
تقول في نفسك إنه لا أحد يستحق الفرح على هذا الكوكب، لكنك تضطر للضرورة أن تغادر قوقعتك.
لم يكن العيد قد حلّ بعد، لكن الشوارع بدت متزينة لضيف لم يأتِ، فجلست وحيدة بزينتها الحزينة أمام حشد الكراسي الفارغة. صاحب مطعم، وهو صديق، اخترنا اللقاء عنده تقليلًا لخسائر تكبدها بداية الحرب بسبب مزامنة افتتاح مطعمه بدايتها. فذهبنا متضامنين اقتصاديًا.
بجانب طاولتنا، تنفث السيدة التي كانت تؤركل دخانها ببطء في فضاء المكان الذي تواعدنا فيه مع صديق مقلّ في زياراته إلى لبنان، ولولا ندرة تلك الزيارات، لما خرجت تلك الليلة.
جلست تلك السيدة بجانبنا، بدت شاحبة وبوجه خلا من التعبير أمام أطباق الطعام المتعددة المصفوفة أمامها دون أن تتناول منها شيئًا. كانت تحدق بما حولها كما لو كانت تتفرج على التلفاز، فلا تحرج إن التقت نظراتكما ولا تشيح ببصرها تهذيبًا. وجه شاحب، وعيون أحاطت بها هالات سود وصفر، وشعر حالت صبغته فبان بعض الشيب. لم تكن متزينة، وبدت، مع أنها كانت تنفث دخانها في وجهي تقريبًا، كما لو كانت لا ترانا. احتملت دخانها وقررت السكوت وغض البصر. فكلنا متعبون من الغضب والحزن. وسرعان ما نسيت وجودها في خضم تجاذب أطراف الحديث مع ذاك الصديق وبعض المعارف.
فجأة، ينقطع صوت الموسيقى الناعمة من المسجل، وتضاء بقعة بدت كما لو كانت مسرحًا أو منصة. خير إن شاء الله؟ وإذ بفرقة موسيقية تعتلي تلك المنصة. فرقة موسيقية؟ بدا ذلك كما لو كان رنين هاتف بأغنية فرحة في مجلس عزاء. يرد الصديق المغترب على استغرابنا بالقول إن صاحب المطعم أخبره أنه سيكون هناك عزف على العود. بدا له الاستماع إلى عزف العواد كما لو كان زيادة مسموحة إلى حد ما في حالة الحداد النفسي الذي نعيشه جميعًا.
لكن، لدهشتنا، تبين أن العود لم يكن وحيدًا، فقد كان هناك غيتار وأكورديون وكلارينيت، لا بل كانت هناك دربكة مع دفوف صاخبة. ثم... دخل المغني وجلس أمام الميكروفون، و... نعب! أي أنه فتح فمه وحنجرته على آخرهما وزعق فينا مغنيًا. يا للهول.
طوال ساعة كنت مشدوهة بالاستعراض الصاخب ونطنطة العازفين والمغنين على المنصة: ما هذا؟ نوع من هستيريا، صرعة؟ هيصة؟ بدا كما لو أن صاحب المكان قرر أن يجعلنا نفرح بالقوة، أو كما لو كانت تلك الضجة المسماة تجاوزًا موسيقى، نوع من صياح إنكار. صراخ حنجرة تخنقها الدموع وتكابر.
ما هي إلا دقائق حتى تحركت السيدة التي كانت تؤركل. تمايلت بداية وهي جالسة في مكانها مع "الموسيقى". بدا كما لو أنها بدأت تسمع ما يحدث حولها، وأن شيئًا من هذا الصراخ تناهى إليها بشكل خفيف. إلى جانبها، زوجها ربما، تمايل هو الآخر. ثم، وببعض التردد، نهضت سيدة من طاولة بعيدة، وتمايلت بخفر أمام أصحابها، وصفق لها ندماؤها لتشجيعها، ثم قامت صديقتنا هي الأخرى لتتمايل. بدت تحت الأضواء الخافتة كما لو كانت تترنح من دوار، عليلة، كما لو كانت مريضة في طور النقاهة وليست ساهرة تتمايل طربًا. بدا رقصها كما لو كان مغالبة لإحساس بالذنب، صراعًا مع الخجل، أو ربما هكذا تخيلت أنا.
لم أستطع وأصدقائي الصمود طويلًا. فالصراخ كان يعلو أكثر فأكثر حتى أصبح لا يطاق.
يهمس صاحب المطعم الذي كنا نستأذنه في الخروج "إن شاء الله تكونوا انبسطتوا؟" أبتسم صامتة كما لو كنت أربت على كتفه. فيقول معتذرًا "بدنا نعيش شو فينا نعمل؟". أهز برأسي وأواصل الابتسام بصمت، في حين كان أحد الأصدقاء يشير إلى أن التاكسي قد وصل.
عشية العيد تكتب جنى في مدونتها أن وحشًا قد نما بداخلها خلال السنة والنصف سنة الماضية. وتقول في وصف ذلك "قبل نيّفٍ وعام اعتكفت الحياة. لازمت زاويتي وتحوّلت متفرّجة على حرب العالم المتحضر على غزة وشعبها وعلى الجنوب اللبناني وأهله (..) انقطعت عن الطعام والشراب حين جاعوا وعطشوا، رفعت عني الغطاء حين بردوا وأطفأت المكيف حين ألهبتهم الشمس الحارقة (..) كنت إنسانًا يشعر ويتألم ويكاد يموت من القهر. ثم تخلت عني إنسانيتي رويدًا رويدًا.
صرت أطفئ التلفاز حين أرغب في تناول الطعام. ثم تسللت تدريجيًا إلى الحياة، في الخفاء تارةً وفي العلن طورًا (..) وتبقى أبهى هذه المبررات "غريزة البقاء" (..) أي غريزة وأي بقاء؟ بقائي لم يكن مهددًا حتى حين اتسعت الحرب الإسرائيلية على لبنان ودمرت البشر والحجر (..) أصبحت شخصين، أنظر بطرف عيني للشخص الآخر الذي كنت عليه، الشخص الذي يستجدي الدمع ليعبر عن وجعه. أشيح بنظري عنه، أستعجل الحياة، أتجمل استعدادًا لاستقبال السنة الجديدة، أنظر في المرآة، فأراني وحشًا...".