إنه السؤال يا غبي!
لماذا يحذف أحدهم فجأة حساباته على منصات التواصل الاجتماعي؟ بداية ودفعاً لسوء الفهم، فهذا العنوان اقتباس بتصرّف لمقولة صكها جيمس كارفيل مدير الحملة الانتخابية للرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، في السباق الرئاسي المحموم أمام جورج بوش الأب، مطلع تسعينيات القرن الماضي.
أراد التركيز على دور الاقتصاد، فكتب ثلاث عبارات لخصت أهداف حملة كلينتون؛ "التغيير مقابل مزيد من التدهور، إنه الاقتصاد يا غبي، لن ننسى الرعاية الصحية". كان لذلك مفعول السحر، ولامس وترًا شديد الحساسية بين جموع الأميركيين، وأدخل (مع جملة اعتبارات أخرى) كلينتون إلى البيت الأبيض.
وأعود إلى مسوّغ تعديل العنوان، وزبدة المسألة أنّ مؤتمرًا صحافيًا جمع رئيسة وزراء نيوزيلندا، جاسيندا أرديرن (42 عامًا) ونظيرتها الفنلدنية سانا مارين (37 عامًا)، في 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، وإذ بمراسل جديد يدعى جوي دواير من (Newstalk ZB) يوجّه سؤاله لهما: "هل التقيتما لأنكما في العمر نفسه تقريبًا وبينكما مصالح مشتركة؟".
بدا الاستغراب على وجهيهما، وقاطعته جاسيندا قبل أن يستطرد، إذ تصنّعت ابتسامة تكتم بها ما اعتمل في صدرها، وقالت بلهجة حازمة: "إذا التقى باراك أوباما (الرئيس الأميركي الأسبق) وجون كي (رئيس وزراء نيوزيلندا الأسبق)، لا أعتقد أنّ سؤالًا كهذا سيُطرح"، في ضربة خاطفة للمراسل. كما ارتأت "سانا" أن تُجهز عليه، فأضافت بنبرة ساخرة: "نلتقي لأننا رئيستا وزراء"، وكأنما أرادت أن تزيد جرعة التوبيخ، فاستطردت: "نسعى إلى حصول المرأة في (كلّ أصقاع الأرض) على الحقوق والفرص التي يتمتع بها الرجل". في غضون دقائق كان العزيز "دواير" مادة للسخرية والتنكيت عبر الإعلام التقليدي والإعلام الجديد معًا.
اللحظات ثقيلة الخطى على قلب دواير، لم تَبق ردود الفعل في أوكلاند وحدها، الكوكب الافتراضي شاهد الموقف أو سمع به، قيل إنه طرح سؤالًا دون تروٍ أو تفكير في ملابساته أو عواقبه. سؤال تمييزي جندري، لم يحاول طرح سؤال على أيّ درجة من سلّم الأهمية، فاكتفى بطرح سؤال عليل! سؤال ربما يَرِد (وعلى استحياء) في "سلاح التلميذ" أو "كراسة الأول"؛ فتناوشته أسنّة الأقلام وتناولته ألسنة الإعلام. لم يتركوا فيه لقائلٍ مقالًا.
إن كانت كلمات قتلت أصحابها فعليًا، فإن كلمات أخرى اغتالت أصحابها معنويًا
خلال سويعات شوهد المقطع 4 ملايين مرّة، وتحت هذا الوقع الأليم آثر الشاب أن ينسحب من العالم الافتراضي، حذف كلّ حساباته على شبكة الإنترنت، وربّ سؤال قال لصاحبه دعني، وإن كانت كلمات قتلت أصحابها فعليًا، فإن كلمات أخرى اغتالت أصحابها معنويًا، والقائمة تطول.
رئيستا وزراء فيمَ ستتحدثان؟ في المانيكير والباديكير؟ تتبادلان وصفات الطبخ؟ هذه هي الشؤون المشتركة؟! ربما، لعلهما لا تستطيعان الحديث في السياسة الداخلية والخارجية والأمن الوطني والتحديات القائمة والمتوقعة! هل قلت لك إن جوي دواير استهل سؤاله إياه بكلمتي "كلنا نتساءل"؟، والآن لعله أدرك أنّ أحدًا غيره لم يفكر في ذلك، ولم يتساءل أحد سواه.
في دنيا الصحافة، الأسئلة خبز الصحافي ومادة قوته اليومي، دع عنك أسئلة منصات التواصل وأخبار الفنانين، وتسطيح العقول في برامج لا تصمد دقائق في اختبار القيمة الموضوعية أو الحمولة الثقافية. ولذا إنّ الصحافي الذي يحترم نفسه ويحترم عقول الناس، هو الذي يجتهد في إعداد أسئلة تعكس اهتمامات الشارع ويبحث عن إجاباتها في مظانها، والمؤتمر الصحافي من تلك المظان، لكن جون دواير ارتقى مرتقًى صعبًا حين تعامل مع النساء باختزال شديد، فأفحِم إفحامًا أشدّ، إنه السؤال (أو بالأحرى)، إنه الإعداد يا غبي! هو لسان حال الناس.
ومع ذلك، فإنّ رئيستي وزراء نيوزيلندا وفنلندا كانتا أرفق في ردّهما من الممثلة الدنماركية، غيتا نوربي، إذ استعملتا دبلوماسية الحوار ومنهج (وَلْيَتَلَطَّفْ)، أو ما يمكن أن نطلق عليه "القمع اللطيف"، في حين أنّ غيتا ذائعة الصيت لم تحفل بذلك، ربما لعامل السن تأثير في تباين رد الفعل، فالممثلة (88 عامًا)، وهي التي اعتادت الوقوف على خشبة المسرح لما يزيد عن خمسة عقود، وهي ابنة المغني الأوبرالي إبنار نوربي.
في دنيا الصحافة، الأسئلة خبز الصحافي ومادة قوته اليومي
الإثنين 19 يوليو/ تموز 2021، بالهواء الطلق في كوبنهاغن، تجلس غيتا على يسار الصحافية سيمي جان نجمة شاشة (TV 2) الدنماركية، خلفهما المسرح الملكي، وخلال الجزء الثاني من مقابلة شخصية، ولا يخفى عليك عزيزي القارئ، أن المقابلة الإعلامية تنقسم إلى مقابلة معلومة ومقابلة رأي ومقابلة شخصية، وليس المجال لتفصيل ذلك، لكن ما يميّز مقابلة الشخصية أنها تطوّف في حياة الشخص وتسبر أغوار خبرته ونظرته للحياة، تلقي الضوء على ما أسهم في تكوينه، فكرياً وعمليًّا واجتماعيًّا، وعلى الأصعدة كافة، إن اتسع الوقت.
دون سابق إنذار، سألت سيمي ضيفتها عمّا إذا كان الجلوس أمام المسرح يثير غبار الذكريات، الإنسان في مرحلة عمرية ما يكون حسّاسًا تجاه أمور بعينها، لم تُخف غيتا استياءها من السؤال، وخلال المقابلة أبدت ملاحظات ناقدة، وربما خشنة ومحرجة للصحافية، لكن يمكن احتمالها وإنجاز المقابلة بأقل خسائر، لتكن مجرّد خسائر جانبية لا تقدح في الهيكل العام للمقابلة. عزيزي: هل تتوقع أنّ المقابلة سارت نحو الأسوأ؟
كلّ متوقّع آت، ولو بعد حين، جاءت العاصفة حين سُئلت سيدة المسرح الدنماركي عن الجانب المظلم من حياتها، لم تتوّرع عن وصف السؤال بـ"الغبي، إلى حدٍ ما"، وهذه فرصة لشكر غيتا نوربي لتقييدها غباء السؤال بـ"إلى حدٍ ما"، ولم تتركه مطلقًا مثلما فعل جيمس كارفيل أو كاتب هذه السطور، ثم قالت معقّبة على سؤال إذا ما كانت تخشى الموت: "من المستحيل الإجابة عن سؤالك، ليس سؤالًا يمكن للشخص المحترف الإجابة عنه، إنه سؤال غبي للغاية، يجب أن أخبرك"، هكذا ودون أن تشعر بتحفّظ أو تلطّف.
تسألها الصحافية "ماذا تريدين في المستقبل؟"، تزمّ "غيتا" شفتيها وتردّ بنبرة جافة: "أريد العودة إلى المنزل".