إنما الدول الأخلاق ما بقيت
تكثر الأخبار المزيفة عن جرائم تحصل في العراق، فآفة العراق الآن هي "الطشة"، وهو مصطلح محلي يشير إلى الشهرة على وسائل التواصل الاجتماعي. لا أقول إن المجتمع العراقي بتعداد سكانه (التقريبي مع كل الأسف) والذي يقدر بحدود الـ40 مليونا مع خمسة ملايين من الوافدين والعاملين، هو مجتمع خال من الجريمة، لكن المبالغات التي ترد في وسائل التواصل الاجتماعي بغرض الشهرة، والتي أغرت بعض المؤسسات الإعلامية -مع الأسف- لخلق جرائم كاذبة وخلق أخبار مزيفة هي من صنع الانحدار الأخلاقي لبعض ضعاف النفوس.
لكن أخطر الأخبار أو بالأحرى "الاعترافات" الكاذبة هي التي تحدث تحت التعذيب والانتهاك لآدمية "المشتبه بهم" في الجرائم أو تحقيقات التحري الاحترازية، فلا يزال أسلوب التحقيق من قبل السلف "الصالح" من أجهزة المخابرات والأمن العامة في عهد النظام السابق يطبق من قبل "البعض" -كما يسميهم رئيس الوزراء الأسبق العبادي- في حق من تودعه الأقدار العمياء في طريقهم.
ان ما سبق هو بحد ذاته جريمة أخلاقية ومهنية وناقوس خطر يدلل على بداية الانزلاق نحو الانحدار الأخلاقي والمجتمعي، وهذا يحصل في الدول التي تهدر فيها كرامة الإنسان تحت أي مسمى كان، وإن كان المسمى ذا صبغة دينية أو عقائدية، وذلك لأن الأفراد الذين يكونون بمجملهم المجتمع يجبرون على عيش حياة لا يشعرون بأنها حياتهم وبذلك يتهتك النسيج المجتمعي وتنغلق الوحدات المجتمعية (العائلة) على نفسها.
ومن أمثلة هذا ما نراه من عمار البيوت العراقية من الداخل (كل بمستطاعه)، بينما تجد الشارع ورصيفه من القذارة والوضاعة بشكل لا يتجانس مع عمار البيت، وكأن العائلة لا تهتم بما حولها مكانيا، فهذا الشارع أو المحل أو المرفق العام هو ملك لحياة أخرى تتمثل بالدولة والتي هي كيان غريب عنه. وكلما ضغط أقطاب السياسة والمنتفعون من هذا الكيان المسمى زورا "دولة" على المواطن لينبطح لسياسات هم يستفيدون منها (ويغضون البصر عن السياسات التي ستدمر البلد أو لا).
وبالتالي ترسخ هذه الممارسات الحكومية السياسية مفهموم الفساد الاقتصادي كمفهوم للترقي الاجتماعي، حيث يرى المواطن أن الانتماء لكيان ذي بأس والغرف من المال العام وتحت أي مسمى كان لصالحه وصالح هذا الكيان اللقيط الذي أجبرته الظروف على الانتماء له وتنميته هو عنوان المرحلة الحالية وبعدها "الله كريم".
إن القتل النفسي والجسدي للشباب العراقي بكل صوره وعناوينه ومبرراته، هو جريمة تتشارك مسؤوليتها كل السلطات والهيئات التابعة للدولة العراقية
إن قتل الناس أو تكميم الحريات، وتحريف الكلم عن مواضعه من قبل الوجوه التي لا تتغير والخطاب المتمنطق الذي لا تنفك القنوات الإعلامية المملوكة للأحزاب السياسية والفصائل العسكرية والتي تمسك بمقاليد سلطة البلد التنفيذية والتشريعية عن تشغيل أسطوانته المشروخة ليل نهار ليتصدع رأس المواطن ومن ثم "يتكيف" كما أبدع العملاقان محمود أبو زيد وعلي عبد الخالق في وصفه في فيلم "الكيف".
هذا الترسيخ في الممارسات التدميرية للمجتمع العراقي متأصل في أصل الدستور في تشدده في تعميق تقسيمه للشعب العراقي داخل الدولة على أساسات غير المواطنة، وتراخيه في تحديد آليات عمل وتوزيع السلطات في الدولة (بحجة أنه دستور وليس قانونا جنائيا أو ما شابه).
إن ما يحصل في العراق هو عسكرة المؤسسات وكل الأمور الحياتية. والعسكرة هنا لا أعني بها العسكرة المسلحة، بل التقسيم غير المعلن والمتعمد للمصالح والهيئات الحكومية من قبل السلطة التنفيذية على أساس قومي وطائفي، بل تقسيم المنقسمات لتشمل عناوين أشخاص أو أهواء ذات طابع إقليمي في داخل الطائفة الواحدة.
نرى انعكاسات هذا الأمر بصورة خطيرة في كل مناطق العراق، ومنها (ذكرا لا حصرا)، الهجرات غير الشرعية من جميع مناطق العراق إلى أوروبا، وموت الشباب اليافع القوي والمتعلم على الأسلاك الشائكة لدول أوروبا الشرقية أو غرقا في عباب أعالي البحار بردا وقهرا وجوعا، لنرى صور الشاب الجنوبي والفتاة الكردية الجميلة تتشارك عنوان "مات في رحلة الهجرة غير الشرعية" بدل تشاركهما لعنوان "حققا النجاح الباهر في مشاريع الوطن".
إن القتل النفسي والجسدي للشباب العراقي بكل صوره وعناوينه ومبرراته، هو جريمة تتشارك مسؤوليتها كل السلطات والهيئات التابعة للدولة العراقية، فالسكوت عن الفساد جريمة، والقتل المعنوي جريمة، وتحقير الشباب ومطالبهم جريمة، وبيع مستقبلهم بالاقتراض الدولي لسد العجز المالي (الذي سببه فساد من في السلطة) جريمة.
بل لم تسلم حتى شمس العراق من وصمها بلطخات الفساد، حيث إن إهدار الملايين المقترضة من دول العالم في بناء مجمعات ومحطات خلايا ألواح الطاقة الشمسية التي لا كفاءة لها في توليد الطاقة الكهربائية (بحجة أنها طاقة نظيفة)، بدل بناء محطات لاستغلال آلاف الملايين من الأمتار المكعبة المهدرة سنويا من الغاز المصاحب للنفط حرقا، هو من أبشع الجرائم بحق صحة الإنسان العراقي والزراعة العراقية والمستقبل البيئي والمالي العراقي.
إن الملوثات التي تنتج عن حرق الغاز المصاحب بانت في موت الأعشاب والأشجار وفي نسب الوفيات العالية بالسرطانات المتنوعة في عموم العراق، بل إن البنى التحتية من منشآت وطرق وجسور معدنية بدأت تشيخ بشكل متسارع بفعل حوامض الكبريت التي تنزل مع الأمطار.
أختم يا عزيزي القارئ موجها الحديث للبعض ممن يكممون الأفواه بمقولة: صدعتنا بالمشاكل، ولكن أين الحلول؟.. -حسب التجربة فعادة ما يقولها منتفع من الوضع الحالي بفساده وضحالته- أقول لهؤلاء إن الإشارة للكوارث بدل السكوت والتطبيل لعاهات الإجرام والفساد، هو نصف الحل، وأيضا، إن كنت أشكو مشاكل وزارتي وأنا في السلطة التنفيذية كوزير فعندها، وفقط عندها، يحق لكم نقد النقد.