إسرائيل والهلع من الصورة وكتابة اليوميّات
(1)
جميعنا تابعَ في الفترةِ الأخيرة الحملة الإسرائيلية الواسعة على قناة الجزيرة حدَّ سن قانون خاص سُمّي بقانون الجزيرة، وهو القانون الذي وافق عليه الكنيست الإسرائيلي في قراءتين، حيث وعد رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، بالعمل على منعِ عمل القناة في إسرائيل، متهمًا إياها بأنّها بوق لحماس، وبتعريضِ حياةِ الجنود وأمنِ إسرائيل للخطر.
كلّ ذلك جاء بأسلوبٍ انفعالي غاضب، يعكس هلعًا كبيرًا مما تقوم به القناة في تعريةِ حقيقة الممارسات الإسرائيلية اللإنسانية، من خلال نشرها صورًا لآثار القتل والتدمير، ناهيك عن نشرها عمّا التقطته الكاميرات الإسرائيلية لعددٍ من الانتهاكات والاغتيالات لمدنيين عُزّل، بما يعزّز مصداقية ما تنشره القناة، ويعرض حقيقة الكيان ومشروعه الإبادي أمام العالم بوضوحٍ شديد. فنحن هنا، أمام هلع من يَرى وجهه البشع في المرآة، فيعمل ما بوسعه على كسرها والتخلّص منها بأيّ شكل، وهو ما حصل ويحصل خلال حرب غزة، من خلال استهدافِ الصحافيين وعائلاتهم، ومحاولات تمرير سرديات كاذبة حول ما يقع، وآخرها قانون الجزيرة.
(2)
هذا الهلع من الصورة رافقه في الأيام الأخيرة هلع من الأدب، حيث نجح أنصار إسرائيل في بريطانيا، وتحديدًا في مدينة مانشستر، في الضغطِ على المؤسّسات الرسمية في المدينة لمنع تنظيم لقاء تقديم كتاب "وقت مستقطع للكتابة، يوميّات الحرب في غزة"، للكاتب والروائي الفلسطيني ووزير الثقافة السابق، عاطف أبو سيف، متهمين إياه بمعاداة السامية، وهو ما ردّ عليه الكاتب مع اعتزام المنظمين القيام بمتابعة قضائية لأصحاب هذه الاتهامات.
هذا الهلع يعكس أهمية الكتاب الذي سجل فيه عاطف أبو سيف يوميّات 85 يومًا قضاها في غزة منذ بداية الحرب في 7 أكتوبر، معايشًا كلّ الفظائع من قتلٍ، وتدميرٍ، وتهجيرٍ، وإقامةٍ تحت الخيام على إيقاعِ أصواتِ المدفعية والطائرات والمسيّرات ونقص المواد الغذائية وأدنى شروط الحياة الممكنة، وتحت وقعِ مشاعرِ الفقد، والخوف، وانتظار الموت في أيّة لحظة.
"وقت مستقطع للكتابة" لعاطف أبو سيف شهادة حيّة عن حرب إبادة ترتكبها إسرائيل في غزّة
تشعر وأنت تقرأ اليوميّات كأنك هناك، تُمسك بكلِّ تلك المشاعر بين يديك، وكأنّها كائنات حيّة، تتحسّس تقلّباتها المتعدّدة وفُجائية تحوّلاتها، فالوضع لا يحتمل البطء والاستقرار والهدوء. وكلّ يوميّة هي منجم لرواياتٍ كثيرة، لو يُترك مجال الحكي لأبطالها من الناس، والأماكن، وغيرها.
صدر الكتاب في الأردن عن الأهلية للنشر والتوزيع في عمّان، وصدرت له ترجمات في 11 لغة أُخرى. وفكرة الترجمة إلى كلّ هذه اللغات مهمة لأنّ هذا الكتاب بتقديري يجب أن يصل إلى الجميع، في كلّ أنحاء العالم، حتى يقرأه الناس في منازلهم، في الساحات، في المقاهي، داخل عربات الميترو والحافلات، وفي كلّ مكان، فهو شهادة حيّة عن حرب إبادة ترتكبها إسرائيل في غزة، إبادة للحياة الإنسانية بكلّ ما فيها من مكوّنات. إنّه شهادة على لحظات ومشاعر وأحاسيس وأفكار إنسانية داخلية عميقة لا تصل إليها الكاميرات، وتجعلها الكتابة لحظات حيّة لا تموت. يجب أن يصل الكتاب ليعرف الجميع الحقيقة، ولا يتم إخفاؤها بفعل السلطة التي يملكها اللوبي الصهيوني في العالم.
(3)
وأدب اليوميّات من أهمِ الأشكالِ الإبداعية في مثل هذه الظروف، وذلك لقدرته على الجمع بين سرد الواقع وسبر الأغوار العميقة للنفس، في حالاتها المتعدّدة، وفي تفاعلها مع ما حولها، وذلك بإسلوبٍ أدبيٍ وفنيٍ يصل إلى القارئ بشكلٍ مباشر. وأدب اليوميات عمومًا ليس غريبًا عن الأدب الفلسطيني والتجربة الفلسطينية. وفي مقدّمة الكتاب، يشير عاطف أبو سيف إلى نشره يوميّات حرب غزة سنة 2014 باللغة الإنكليزية، ولا أعرف إن كان نُشرَ بالعربية أم لا، ونشره بالإنكليزية مفهوم لأنّ الجمهور المستهدف هو الجمهور الغربي الذي قليلًا ما تصل إليه الحقيقة والسردية الفلسطينية للأحداث.
أدب اليوميّات ليس غريباً عن الأدب الفلسطيني والتجربة الفلسطينية
وعلى حدِّ علمي، هناك يوميّات أخرى عن حرب غزة الحالية، بعضها نُشِر، وبعضها في طريقه إلى النشر. وهناك تجارب أخرى سابقة في هذا المجال منها ما أشار إليه الأكاديمي الفلسطيني الشهيد رفعت العرعير، في مقالة له نشرت سنة 2014، وأعيد نشرها في العدد 138 من مجلة الدراسات الفلسطينية، وقد صدر لاحقًا في كتاب بعنوان "غزة تردّ بالكتابة"، معتبرًا في هذا السياق أنّ "الكتابة هي شهادة، ذاكرةٌ تعيش بعد أي تجربة إنسانية، وهي التزامٌ بالتواصل مع أنفسنا ومع العالَم. لقد عشنا لسبب؛ عشنا لنروي قصص الفقد والنجاة والأمل".
(4)
في سياقِ هذه الحرب والقضيّة الفلسطينية عمومًا، تُمثّل هذه اليوميّات قيمة حقيقية بالنظر إلى صراع السرديات المستمر منذ بداية المشروع الصهيوني، وقيمتها وقوّتها مضاعفة اليوم بحكم أنّها ليست مخترعة، بل هي صورة أخرى عمّا شاهدناه مباشرة على مختلف الشاشات. ومن المفارقات أنّ فن اليوميّات، كان سلاحًا بعد الحرب العالمية الثانية وجرائم الهولوكوست، ففي تجوالي بين المكتبات هنا في كندا، باحثًا عن كتب في أدب اليوميات، وجدت الكثير منها يعود لضحايا النازية، بينها يوميات آن فرانك التي كَتب حولها وحول أدب اليوميات الكاتب والروائي التونسي كمال الرياحي، تعليقًا لافتًا، في إحدى مقالاته، إذ قال "اليوميّات التي لا قيمة لها في فترة زمنية معينة قد تصبح ذات قيمة كبيرة في وقت آخر، ولنستحضر يوميات آن فرانك التي تكّرست بها أطروحة الهولوكوست نفسها وحولتها إلى أسطورة، وجعلت تلك اليوميات الطفلة اليهودية ذات الخمسة عشر عاماً أيقونة الثقافة اليهودية، ولم تصمد أمامها حملة التشكيك التي تعرّضت لها اليوميات وصحتها. فمسألة الصدق والكذب والحقيقة أو عدمها لا يمكن أن تبطل زحف الفكرة إذا وجدت عصبية تسندها وتحميها وتروّج لها، وهذا ما حصل مع يوميات آن فرانك التي حولتها الدراسات التاريخية والتوظيف السياسي والتحويل والاقتباس الفني للسينما والمسرح إلى نصٍ مقدّس غير قابل للنقض".
واليوميات الفلسطينية بتقديري غير قابلة للتشكيك، نظرًا إلى ما يدعمها من صورٍ حيّة، لذلك هي جديرة بالتجميع والنشر على نطاقٍ واسعٍ، ولِمَ لا في كتب "جيب" تكون في المتناول؟ فهي إدانة لمرتكبي هذه الممارسات اللانسانية، بكلِّ المقاييس، وصوت للضحايا من الأبرياء، ودفاع عن الحق الفلسطيني والقيم الإنسانية الحقيقية، حتى لا تتكرّر مثل هذه الإبادة في فلسطين، وفي أيّ مكان في العالم.