إبادة الضمير: التعود على مأساة غزة

11 نوفمبر 2024
+ الخط -

يُفزعني حجم المأساة الإنسانية في قطاع غزّة، ويُفزعني أكثر حجم اليأس الذي دبَّ في نفس الناشط العربي وأرهق صوته وأطفأ وهج حماسه القومي، الذي كان قد أعاد بعثه طوفان الأقصى بعد طول سبات.

أذكر حجم التفاعل العربي الهادر مع حدث طوفان الأقصى في أيامه الأولى واحتفاءهم به بزخمٍ عالٍ، واتفاق الشعوب العربية والتفافها - بمختلف أقطارها وانتماءاتها وأيديولوجياتها - حول قضيتها المركزية بذلك الشكل للمرة الأولى.

من نواكشوط إلى مسقط، في كل حيٍّ ودهليزٍ وشارع، أينما وليت وجهك وأخذتك الطريق حينها، تسمع بوضوح تغطيات قنوات الأخبار وأصوات مذيعيها في كل منزلٍ ومحلٍّ وكشك. الجميع محتشد أمام شاشات الأخبار، يحملون غزّة في قلوبهم، وقلوبهم على أكفّهم المرفوعة إلى السماء، يتابعون تداعيات الطوفان الكبير لحظةً بلحظة.

مع بدء التوغل البري لجيش الاحتلال الإسرائيلي داخل قطاع غزّة، واشتغال آلة القتل الإسرائيلية بوتيرة متسارعة وشكل همجي، كنا نتابع ونعدّ أرقام الضحايا، حين كانت بالعشرات، أولًا بأول، ونعيش المأساة الغزّاوية من خلف الشاشات بقلقٍ وغضبٍ كبيرين، في مشهدِ انتماءٍ إلى قضيتنا المركزية مهيب، ولكأننا - بتلك المشاعر - وسط الميدان نحمي ظهور المقاومين.

اليوم، وبعد عامٍ وبضعة أيام، والضحايا يقتربون من 45 ألفًا، معظمهم من النساء والأطفال، في واحدة من أكبر عمليات الإبادة وأكثرها وحشية في عصرنا الحديث، أقف متسائلًا: أين راحت كل تلك المشاعر؟ بل كيف تلاشى طوفان حميّتنا؟ وكيف نجحنا في التعايش مع عدّاد الموت وقد صار رقمًا مهولًا؟

تعوّدنا. حاولت كثيرًا أن أتجاوز مُرَّ هذه الحقيقة، وأخلق قراءات أقل مرارة لفتورنا في الالتفاف حول قضيتنا الأولى والتمسك بتلابيب أحقيتها لكني فشلت أمام وضوح واقعنا. لقد أصابتنا لعنة التعوّد، ويا لها من لعنة!

لا يتوقف خطر فكرة التعوّد عند حد خذلاننا للفلسطينيين وتململنا عن نصرة قضيتنا الكبرى فحسب، ذلك أن التعوّد على وجود المأساة أعظم خطرًا من المأساة نفسها، تهديدٌ حقيقي لإنسانيتنا، لفطرتنا، لنزعتنا في مجابهة الظلم ورفضه والتنديد به. هذا النوع من التعوّد هو عملية تأصيل للشرور في دواخلنا. إننا نغذي نزعة الشر فينا، نتحول إلى جلادين من حيث لا ندرك.

يحضر في بالي الآن هذا المقطع من رواية "من وراء القضبان" لكارل تشيسمان: "اكتشف هو وزملاؤه في هذا القطاع آلاف الجثث اليابانية التي كانت ممزقة ومتحللة. وكان النتن الهائل المتصاعد منها يمنع هؤلاء الرجال من الراحة والنوم والأكل. بعد ذلك ألِف الرجال ذلك، وصاروا يستخدمون رؤوس اليابانيين بعد معالجتها، بحيث يكشفون الجمجمة الملساء الملتمعة، يستخدمونها زينةً لمكاتبهم".

كان الأمر فظيعًا عند النظرة الأولى، حين رأوا الجثث الممزقة أمامهم، قبل أن تتغشاهم لعنة التعوّد، وتقضي على إحساسهم بفظاعة المشهد ومأساويته، لينتهي بهم الأمر طرفًا مشاركًا في الجريمة من خلال تلاعبهم بالجثث والتزيّن بها! هذا ما أعنيه بلعنة التعوّد.

هذا تمامًا ما يحصل معنا اليوم، فنحن وبشكلٍ باعث على القلق والحسرة، تعايشنا مع الأرقام الكبيرة القادمة من غزّة لسقوط الشهداء والجرحى. وإن أبشع ما في الأمر، بحسب دوستويفسكي، هو أن الفظاعات أصبحت لا تهز أنفسنا. وفي حقيقة الأمر أن هذا التعوّد على الشر، هو ما ينبغي أن نخشاه ونحزن له.

يمكننا إذن تلخيص المشهد بالقول إننا نعيش اليوم نوعَيْن مختلفَيْن من الإبادة، أولها إبادة بشرية وحشية بحق الفلسطينيين في قطاع غزّة، ويمارسها جيش الاحتلال الإسرائيلي، والأخرى إبادة خطيرة تتعرض لها ضمائرنا وإنسانيتنا، ويمارسها تعوّدنا وتعايشنا مع الإبادة الأولى.