أوراق من ذاكرة المطر
عبد الحفيظ العمري
أحبّ المطر لأنه يذكرني ببراءة الأطفال. فصوت قطراته، وهي تضرب لوح الزنك المثبّت أعلى نافذتي، تأتيني كأنّها خفقات قلب مشتاق، وأنا على إيقاع سقوط القطرات، أكاد أسمع الشاعر بدر شاكر السياب، ينشد:
عَيْنَاكِ غَابَتَا نَخِيلٍ سَاعَةَ السَّحَرْ
أو شُرْفَتَانِ رَاحَ يَنْأَى عَنْهُمَا القَمَرْ
كَأَنَّ أَقْوَاسَ السَّحَابِ تَشْرَبُ الغُيُومْ
وَقَطْرَةً فَقَطْرَةً تَذُوبُ في المَطَر
وَكَرْكَرَ الأَطْفَالُ في عَرَائِشِ الكُرُوم
وَدَغْدَغَتْ صَمْتَ العَصَافِيرِ عَلَى الشَّجَر
أُنْشُودَةُ المَطَر..
مَطَر..
مَطَر..
مَطَر..
فأجد نفسي أرددُ بعده: "مطر.. مطر.. مطر"، لتستفيقَ في النفس تلكمُ الأغاني التي كنّا نشدوها صغاراً، وقت سقوط المطر:
"يا مطرْ أمطرْ
بالشعير والبُرْ
ومعيْ (مَشْقُرْ)" (المَشْقُرْ: اسم نبات الريحان بالعامية اليمنية).
السماء الرمادية ليست كئيبة كما يُوحي لفظ الرمادية، بقدر ما هي لوحة طرّزتها القطرات الهاطلة، فالمطر يجلو النفس كما تجلو امرأة ما مرآتها لتقعد أمامها للزينة!
أمامي الآن، يلفّ الضباب الربى، وبدأت البيوت البعيدة والتضاريس في مغادرة كادر الصورة، كأنها أطفال يتوارون، خجلاً وهيبةً، عند حضور أبيهم!
يتحدث أهل الحاسوب عن نصّ متعدّد التشعب، أو لغة ترميز النص المتشعب HTML، غير أنّي أرى المنظر الطبيعي للأرض في أثناء المطر المتساقط نصاً متعددَ التشعب؛ يلتقي فيه الصوت والصورة والحركة والإحساس والذكريات، وأيّ شيء تريد أن تحشره في هذا النص المتشعب واسع النطاق، وأظن أنّي لو كتبتُ بعدد القطرات الهاطلة لما أوفيت المشهد حقه، حيث يصنعُ هذا النصُّ متعدّد التشعب هذه اللوحة الكونية، لوحةً، لا أقول ثلاثية الأبعاد، بل متعدّدة الأبعاد من إبداع العزيز الحكيم، سبحانه!
يبدو المنظر الطبيعي للأرض أثناء المطر المتساقط نصاً متعدّدَ التشعب؛ يلتقي فيه الصوت والصورة والحركة والإحساس والذكريات...
بودي أن يهطل المطر غزيراً، فلديّ رغبة طفولية في أن أمشي تحت المطر! وطبعاً، لن أردّد مع نِزار قباني:
والآن أجلسُ والأمطارُ تجلدني
على ذراعي. على وجهي. على ظهري.
ولن أتساءل: ما هي زاوية سقوط المطر، بل لن أبحث عن فيزياء المطر، الشي الوحيد الذي أريده؛ هو أن أتأمل داخل المطر.
إنّ أمطار مدينة إب اليمنية تختلف عن سواها تماماً. صحيح أنّ المطر لا ينقطع عن الكرة الأرضية ساعة واحدة طوال اليوم، كما يقول العلم، لكنه عندما يهطل على إب يكون له وقع خاص، لأنّ هذه المدينة مهبط المطر السماوي الجميل، وحدها تحتضن المطر بشوق خاص.
هنا جغرافيتي التي لا يحدّ مدى اتساعها أيّ حدّ، بل تتوّسع حتى تكاد تنفذ من أطراف أذرع مجرة درب التبانة، هنا مسكن الروح منذ غربتها الأخيرة قبل عقود.
هنا لا أخاف أن تمطر الدنيا ولستِ معي كما يقول نِزار قباني، لأنّ هنا مهبط المطر، ومجرى سيول العمر! وحدها إب، منْ تهدهدنا كأطفال في مهدها الرؤوم على وقع ملامسة قطرات المطر لصفائح الزنك التي تعلو نوافذ منازلها! هنا، صوت الرعود "الداجنة"، والقادم من أعماق الغيوم البعيدة، وقد أصبح مألوفاً لنا، ونحن نقترب من شهر أغسطس/ آب، أحد أغزر شهور المطر في إب، بل ويُقال إنّ اسم إب، إنما هو تصحيف لآب!
إنّ إب عاصمة المطر، مثلما صنعاء عاصمة الروح، كما سمّاها الشاعر الراحل عبد العزيز المقالح! فهي مدينة لا تحيا دون المطر، وكأنه دمها الذي يسري في شريانها ويمدّها بالعافية، والحقيقة تصبح إب بلا مطر قاحلةً، وكأنها صحراء الربع الخالي.
بيد أنّ للمناخ تقلباته، ومن ذلك مناخ إب؛ ففي الثمانينيات كان المطر يهطل عليها، شتاءً وصيفاً، ونادراً ما كنّا نرى قرص الشمس بعد الظهر، وكان الضباب يلفّ المدينة طوال اليوم.
إب مدينة لا تحيا بدون المطر، وكأنه دمها الذي يسري في شريانها ويمدّها بالعافية
إنّ رائحة التراب المتصاعدة بعد هطول المطر والمشبعة بالأوزون، عطر كوني أكثر تضوّعاً من "وان مانشو" أو "كازنوفا"، تلك الرائحة التي يعلّلها الناس، خطأً، بأنها رائحة التراب المبلّل بالمطر، والصحيح أنها رائحة غاز الأوزون حيث "يتشبّع الهواء برائحة لا تشبه رائحة اليود المعتادة، بل تشبه رائحة التبن الطازج في أجران الحصاد، والأوزون عبارة عن غاز ذي لون أزرق باهت، يشكل غلافاً يحيط بالكرة الأرضية على ارتفاع يراوح ما بين خمسين ومئة ألف قدم"، كما ذكرت مجلة العربي في إحدى مقالاتها.
وهذا الخفوت في الإضاءة بعد المطر، الذي نسميه بعاميتنا اليمنية "الغيام"، يجعل الجو مستعداً لموجة أخرى قادمة من الأمطار.
لكن هذا ليس كلّ شيء، فقد أشرقت الشمس بعد ذلك، بما نسميه بروعة الجلاء؛ ما جعل من هذه الشمس مضرباً للأمثال على السطوع، بقولهم: "يا شمس بعد المطر"!
فرأيت الأطفال في حواريهم يلعبون بالماء والطين، ما يشدّ الذاكرة إلى الأيام الخوالي، حينما كنا نلعب مثلهم بالماء والطين. فمنْ يُعيد لي العمر الذي ذهبا؟