أن تقرأ لسالينجر خير من أن تراه (2/2)

24 مارس 2021
+ الخط -

بعد حوالي ثلاثين عاماً من قصة غرامه الأولى خاض الأديب الأميركي الشهير ج. د. سالينجر قصة غرام جديدة مع كاتبة شابة لم تكتف بالإعجاب به ككاتب فقط، بل وسقطت في غرامه وتركت كل شيء من أجله، ودفعت ثمن ذلك غالياً، أتحدث عن الكاتبة جويس ماينارد التي أنتجت عدداً من الروايات اشتهر منها سابقاً رواية "لتموت من أجلها" التي تحولت إلى فيلم سينمائي شهير من بطولة نيكول كيدمان، واشتهر منها مؤخراً رواية (عيد العمال) التي تحولت إلى فيلم سينمائي مهم من بطولة كيت وينسلت وجوش برولين.

عندما بدأت علاقة جويس بسالينجر كانت في الثامنة عشر من عمرها، وكان هو في الثالثة والخمسين، وكان وقتها في أوج شهرته ومجده، وغموضه أيضاً، وكانت قد نشرت لتوها قصة في إحدى المجلات، وفوجئت برسالة من سالينجر يمتدح فيها القصة، وبعد 25 رسالة بينهما كانت حافلة بعبارات صاعقة التأثير من نوعية "لا يمكن أن أخلق شخصية أحبها مثلما أحبك"، قررت أن تترك المنحة الدراسية التي حصلت عليها وهي لا تزال في عامها الجامعي الأول في جامعة ييل لتعيش مع سالينجر في منزله بولاية نيوهامبشير، متصورة أنها ستعيش معه إلى الأبد، لكنها عاشت معه عشرة أشهر فقط، كانت محفزة لها على إكمال كتابها الأول الذي استلهمت فيه قصتها مع سالينجر لكنها استجابت لطلبه بأن لا تتطرق لعلاقتهما فيه، ولم تكن تتخيل أن سالينجر سينهي علاقتهما فجأة دون أن يستجيب لتوسلاتها بأن تعود إليه، لتدمرها تلك العلاقة، لدرجة أنها ظلت لمدة عامين تسكن بالقرب منه على أمل أن يعيدها إليه.

لم تعد ماينارد إلى الدراسة الجامعية ثانية، لكنها استخدمت عوائد كتابها لكي تشق طريقها في الحياة، والذي لم يكن طريقا سهلاً، حيث صادف إخفاقات عديدة ونجاحات بارزة أيضاً، لكنها فاجأت الأوساط الأدبية في عام 1999 عندما أعلنت عن نيتها بيع رسائل سالينجر إليها في مزاد علني، مبررة ذلك بأنها محتاجة لدفع نفقات التعليم الجامعي لأولادها، ليشتري الرسائل مصمم البرامج بيتر نورتون مقابل 156 ألف دولار، معلناً عن نيته إعادة الرسائل ثانية إلى سالينجر. (بالمناسبة كان حظ مرحاض سالينجر أفضل من حظ رسائلها حيث عُرِض للبيع في مزاد الكتروني بعد وفاته وبيع مقابل مليون دولار).

كشفت لها فتاة مراهقة أن سالينجر بدأ يبعث لها رسائل غرامية في الوقت الذي كانت تعيش في أحضانه

لم تفوت ماينارد فرصة تجدد اللغط حول علاقات سالينجر النسائية لكي تصفي حساباتها العاطفية معه، في مقال نشرته صحيفة (النيويورك تايمز) بعنوان (هل كان سالينجر نقياً حقاً على هذا العالم؟)، مذكرة في مقالها الجميع بأنها سبقت قبل سنين إلى كشف ولع سالينجر بالمراهقات في الوقت الذي كان الجميع ينظر إليه بوصفه تجسيداً للنقاء الإنساني، واستغلت أيضاً الفرصة لكي تكشف معلومات جديدة عن ذلك الولع، أهمها أنها بعد أن كسرت الإتفاق غير المكتوب بينها وبين سالينجر وكتبت عن علاقتهما، تلقت أكثر من 12 رسالة من فتيات تتراوح أعمارهن بين 15 و35 سنة يعترفن أنهن خضن نفس تجربتها مع سالينجر، بل إن فتاة مراهقة كشفت لها أن سالينجر بدأ يبعث لها رسائل غرامية في الوقت الذي كانت ماينارد تعيش في أحضانه.

بدا واضحاً من سطور ماينارد أنها برغم كل ما خاضته من تجارب في الحياة لا زالت تعيش مرارة تجربتها مع سالينجر الذي وصفته يومها بأنه كان "وطنها"، فقد عبرت عن استيائها من قدرة سالينجر على إقناع قرائه لمدة نصف قرن بأن تصرفاته لا بد أن تكون معفاة من أي مراجعة لمجرد أنه كتب رواية رائعة وبضع قصص، وبرغم أن حقيقة شخصيته باتت الآن معروفة للعالم بفضل الفيلم والكتاب، إلا أنها تستنكر كيف لا زالت هناك أصوات تتعالى مستنكرة انتهاك خصوصية سالينجر الأسطورية، وكيف أنه لا زال هناك من يرى أن العبقرية يمكن أن تكون مبرراً للتسامح مع الإساءات التي يوجهها الفنان لكل من يمكن أن يخدمون فنه، مستشهدة برأي الناقد السينمائي للنيويورك تايمز نفسها ديفيد إيدليشتاين الذي كتب مقالة هاجم فيها الفيلم بشراسة قال فيها بشكل واضح "أحب سالينجر الفتيات الصغيرات، فلتخرس الصحافة إذن"، مذكرة إياه بأنه أب لبنات، ومع ذلك فهو لم يجد مشكلة في أن يتلاعب سالينجر بمشاعر فتيات مراهقات، كان عمر إحداهن 14 سنة عندما بدأ سالينجر بالتودد إليها، مع أنه يعلم خطورة ذلك وتجريمه، مستغربة أن تلك الفتاة نفسها أعربت عن شعورها بالفخر لأنها شكلت إلهاماً لكاتب كبير، برغم أنه قطع علاقته بها بعد لقاء جنسي وحيد.

تقول ماينارد إنها تعلم أن البعض سيحمل المسئولية للفتاة المراهقة أيضاً لأنها مسئولة عن جسدها ومصيرها، وبالتالي لا يمكن أن يتم اعتبارها كضحية بعد ذلك، لكنها تنبه الجميع إلى أنه لا يمكن أن نتحدث بهذه الخفة عندما يتعلق الأمر بأناس مثل سالينجر يفترض بهم أنهم يحتلون موقع المرشد والملهم والمعلم، ومع ذلك فهم يستخدمون قوة موقعهم هذه لجذب أناس أصغر منهم بكثير إلى علاقات عاطفية وجنسية، متجاهلين أن ذلك يمكن أن يدمر الطرف الذي "يغرقونه" في غرامهم ـ لاحظ التعبير الملفت ـ ويستغرق منه سنوات أو عقوداً لكي يتعافى، ولكي لا ينسى القارئ أنها هنا تتحدث عن تجربتها الشخصية تقول ماينارد بوضوح: "عمري الآن 59 عاماً، دع رجلاً يخبرني أنني لا أشكل قيمة، وسيتلاشى من عيني فوراً، لكن عندما يقول لي ذلك رجل كنت أعتبره يحوز كل حكمة الدنيا وأنا في الثامنة عشرة، فإن الذي سيتلاشى هو أنا وليس هو".

عبرت عن استيائها من قدرة سالينجر على إقناع قرائه لمدة نصف قرن بأن تصرفاته لا بد أن تكون معفاة من أي مراجعة لمجرد أنه كتب رواية رائعة وبضع قصص

وبرغم كل الضجة التي أثارها الفيلم الذي تلقى انتقادات حادة من أسرة سالينجر ومن معجبيه، إلا أن ماينارد تعتبر أن الفيلم كان مهذباً أكثر مما ينبغي، وتستغرب أن صانعه ركز خلال ساعتين هما زمن الفيلم على أن سالينجر كان ضحية للحرب العالمية الثانية وأن ولعه بالفتيات الصغيرات كان من أعراض صدمته من الحرب، وكان معبراً عن سعيه لاستعادة البراءة، معتبرة أن هذه القصة التي تبناها المتحيزون لسالينجر وأصبحت أسطورة رائجة، تثبت بشكل مؤسف أن الحياة الثقافية ترى في تدمير رجل عظيم لفتاة شابة خسارة ممكنة الاحتمال، وهو ما ترفضه كأم لفتاة مؤكدة على أن من يستهين بمشاعر فتيات يمنحنه حبهن وثقتهن هو الخاسر الحقيقي الذي لا يستحق التقدير والاحترام، ولكي تقطع ماينارد الطريق على كل من يتهمها بالتقليل من شأن سالينجر كأديب، أو من يطالب بتجاهل أهمية كتبه وإبداعاته الأدبية، تختم ماينارد كلامها بعبارة قصيرة شديدة الأهمية سنختم بها كلامنا أيضاً فلا كلام يمكن أن يقال بعدها: "هناك الفن، وهناك فنانون، دعونا لا نخلط الاثنين ببعضهما".

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.