أنا والرجل الأخضر (3/3)

11 فبراير 2021
+ الخط -

بدأت الحكاية حين تلقى النائب العام المساعد اتصالاً على الهاتف الخاص بمكتبه، فانقطع حديثه الغاضب الذي كان قد وصل فيه إلى نقطة قال فيها لعصام سلطان إنه لن يسمح بتأجيل التحقيق، وأنه سيبدأ إلقاء أسئلته على الفور، طالباً من عصام أن يتركني لكي أجيب على الأسئلة دون تدخل منه، وقبل أن يرد عصام سلطان عليه بانفعال يشعل الأجواء أكثر، جاء ذلك الاتصال الذي لم ننتبه كثيراً إلى مضمونه، لأنني اقتربت من عصام وقلت له إنني أعتقد أن التصعيد لن يكون في مصلحتي، وأن علينا أن ننحني للعاصفة قليلاً حتى يتبين لنا مسارها ومدى قوتها، مؤكداً أنني سأتحمل مسئولية ما سيجري أياً كان، وحين علا صوت المستشار السعيد التفتنا إلى مكتبه فوجدناه يقول لمن يتصل به وهو يحاول جاهداً كظم غيظه: "لا يا افندم.. النمرة غلط.. لا مش هنا.. مش مهم هنا فين.. المهم إن النمرة غلط".

أنهى المستشار عادل السعيد المكالمة بتهذيب، ثم أخذ نفساً عميقاً، وبدأ في إملاء ديباجة التحقيق على سكرتير النيابة، ليقاطعه جرس التليفون ثانية، وحين رد عليه لم يطل الوقت حتى سمعناه يقول بصوت منفعل: "يا افندم قلت لحضرتك النمرة غلط.. أيوه دي مش نمرة مخبز التوفيقية.. برضه مش مهم حضرتك تعرف دي نمرة مين.. لو سمحت اتأكد من النمرة الأول قبل ما تتصل"، ثم أغلق السماعة بحدة، وقبل أن يعود المستشار السعيد إلى إملاء ما تبقى من الديباجة، كنت أعاني بشدة من آثار كتمي للضحك الذي أدركت أنه سيؤدي إلى المزيد من التوتر في أجواء التحقيق، خصوصاً أن الابتسامة العريضة كانت قد اختفت من على وجهه فور انفعال عصام سلطان، حتى ظننت أنه لم يبتسم من قبل. 

كان ضحكي سيُعدّ بالتأكيد استهانة بالتحقيق ومقام النيابة العامة، لذلك قررت أن أتماسك، لكن التليفون عاد بعد لحظات إلى الرنين، وعندها حبك الإفيه ووجدتني أقول للمستشار عادل السعيد: "ما تجرب يا افندم تقول للي بيتصل إن ده مكتب النائب العام.. وصدقني مش هيتصل تاني"، فلم يتعاط إيجابياً مع الإفيه، ونظر إليّ نظرة تفيد إدراكه لغبائي لأنني أدعوه لكشف رقم مكتب النائب العام، لكن الاتصال كان هذه المرة من رقم يعرف هدفه جيداً، وعلى إثره جاء هاتف من النائب العام مستدعياً مساعده لمقابلته، وفور أن خرج من المكتب قمت بتفريغ حمولتي من الضحك، في الوقت الذي كان عصام سلطان يواصل فيه قراءة أوراق الملف وهو في غاية "الكلضمة" والتجهم، وحين حاولت فكّه بأن قلت إن هذه البداية تليق بتحقيق حول مقال مكتوب عن القذافي، قال لي إنه ليس سعيداً بطريقة التعامل معي، وأنه يشعر بأن هناك نية مبيتة من الدولة لمجاملة القذافي على قفاي، وأن الموضوع لا علاقة له قانوناً بإبراهيم عيسى الذي سيتم إخراجه من القضية طبقاً للقانون، لأن الأمر يتعلق بمقالة رأي وليس بتحقيق صحفي أو خبر، وبالتالي لا يتحمل إبراهيم المسئولية قانوناً عن نشره طبقاً للحكم الذي أصدرته المحكمة الدستورية العليا قبل سنوات، ولذلك سأكون أنا الذي سيشيل الليلة، ومع أنني كنت أتوقع ما قاله عصام من قبل، إلا أن رصّه لذلك الكلام بمنتهى الجدية والقلق، كان كفيلاً بأن تتجمد الضحكات على فمي الذي لم يجد ما ينطق به غير كلمات: "ربنا يطمّنك يا شيخ".

حين عاد النائب العام المساعد إلى المكتب كان قد هدأ أكثر من ذي قبل، ربما لأن الحركة بركة، أو لأنه استعاذ بالله من الشيطان وهو يمشي، أو لأنه تلقى خبراً سعيداً، لكن هدوءه لم يؤثر على أسئلته التي كانت شديدة الحرص على تأكيد أن ما قمت به جريمة يعاقب عليها القانون وتخالف بنود المادة كذا والمادة كيت، وتؤثر على الأمن القومي المصري، وتعكر صفو العلاقات مع دولة شقيقة وجارة لمصر، وأزعم أن الله فتح عليّ فتوح العارفين، فأفادني بما سبق أن حضّرته وقرأته في الليلة الماضية، حيث بنيت دفاعي عن نفسي على نقطة رئيسية هي أن العرف الصحفي السائد في السنوات الماضية لم يكن يجد مشكلة في الهجوم على الرئيس معمر القذافي أو السخرية منه، وأشرت إلى كتابات كثيرة في مجال السخرية من القذافي كتبها الكاتب الكبير محمود السعدني والكاتب الكبير أحمد رجب، والذي كان يكتب أحياناً أفكار رسوم كاريكاتيرية تسخر من القذافي كان يرسمها الفنان الشهير مصطفى حسين في صحف (أخبار اليوم)، وأشرت إلى أن تلك المقالات والرسوم نشرت في صحف ومجلات حكومية تتبع سلطة المجلس الأعلى للصحافة مثل صحيفة (أخبار اليوم) وصحيفة (الأخبار) ومجلة (المصور)، ومع ذلك لم يتم اتخاذ أي إجراء ضد من قاموا بها.

حين دخل النائب العام المساعد بعد فترة وهو لا يزال يحتفظ بملامحه المتجهمة، أخذت أسترجع ملامح وجهي ابنتيّ، وأنا على وشك أن أتخذ قراراً بمنعهما من زيارتي في السجن، لكيلا يعلق بذاكرتهما شيء من تفاصيله المقبضة

وبعد ذلك أخرجت من حقيبتي كتاباً من كتب الأستاذ محمود السعدني أصدرته دار الهلال يحتوي على مقال به فقرات تسخر بشكل لاذع من القذافي، وقلت إنني ككاتب لو رأيت أن هذه الكتابات والرسوم يتم منعها أو اتخاذ إجراءات قانونية بشأنها، لربما أدركت أن هناك مشكلة في نشرها، وبدا أنني على وشك أن أعطي لسيادة المستشار أرقام تليفونات الأستاذين الكبيرين محمود السعدني وأحمد رجب لكي يتم ضمهما إلى قائمة الاتهام في القضية، ومع أنني كنت أعلم أن حالة الأستاذ محمود الصحية لم تكن ستسمح له بحضور أي تحقيق، لكنني أصررت على طلب شهادته بوصفه الأستاذ الذي تعلمت منه فن الكتابة الساخرة، وهو ما كررت طلبه بخصوص الأستاذين أحمد رجب ومصطفى حسين، وبدا لي أن المستشار عادل السعيد فوجئ بالتوجه الذي قررت أن أعتمده في الرد، حيث لم أظهر بصورة المناضل الفخور بما كتبه، بل قررت أن أظهر في صورة حسن النية الذي يجهل أن ما فعله مخالف للقانون، والطيب الذي لم يفعل أكثر مما فعله أساتذته والذي يرجو أن يتم إحضارهم ليكونوا شركاء في الحكم على ما فعله، خصوصاً أنه لم يقم بأكثر مما قاموا به من قبل.

في موضع آخر من التحقيق استعنت بواحد من كتب الدكتور عبد اللطيف حمزة التي أرّخ فيها لفن المقالة الصحفية في مصر، وبمقدمة كتابه الذي قام فيه بتحقيق كتاب (الفاشوش في حكم قراقوش) متحدثاً عن فن السخرية السياسية، وطالباً الحصول على فرصة لمراجعة كلية الإعلام بجامعة القاهرة للاستعانة بالدراسات الجامعية التي قد توجد فيها عن فن الكتابة الساخرة وأدبياته لأؤكد أنني لم أتجاوز كثيراً حين كتبت ما كتبته، وأن تاريخ الصحافة في مصر حفل بما هو أقوى وأقسى، مستعيناً ببعض ما قاله الكاتب الكبير محمود السعدني في أحد كتبه الصادرة عن مؤسسة (أخبار اليوم) عن تسامح القضاء المصري مع السخرية السياسية، حريصاً على أن أؤكد بمنتهى "الحليطة" التي تطلبها الموقف أنني لست محتاجاً لتعديد الأحكام القضائية الشامخة التي انتصرت لحرية الرأي التي تنطلق من منطلق حسن النية، وهو ما ينطبق عليّ لأن ما قلته جاء من موقع الغيرة على الشعب الليبي الشقيق الذي دفع ثمناً باهظاً للخلاص من الاحتلال الإيطالي، وكان يستحق أن ينال ما تمناه وناضل من أجله من حرية كريمة، مؤكداً أنني لا أرجو للشعب الليبي إلا أن ينال ما ننعم به في مصر من حرية الرأي والتعبير التي يكفلها لنا الدستور والقانون والقضاء الشامخ.

كنت منشكحاً أيما انشكاح، كلما ألقيت نظرة إلى الصديق العزيز عصام سلطان فك الله كربه، لأجده يتابع ما أقوله وقد عادت الابتسامة العريضة لتسكن وجهه، خاصة أنني كنت أكرر مع إجابتي على كل سؤال تقريباً نفس الكلام عن الأحكام القضائية الشامخة وانحيازها لحرية الرأي والتعبير، وهو ما لم يكن يستطيع المستشار عادل السعيد أن يشكو أو يتبرم منه، وحتى سكرتير النيابة الذي أرهقه كتابة ما أكرره كان بارعاً هو الآخر في كتم مشاعره تجاه الخطب العصماء التي كنت أقولها في إجاباتي، وأنا لا أدرك هل سيكون لها تأثير حقاً أم أنها ستكون في النهاية تحصيل حاصل، لأن القرار سبق اتخاذه بالفعل من قبل.

بعد أن انتهى التحقيق الذي استمر ثلاث ساعات جفّت فيها غددي اللعابية وانسدّت القنوات السمعية في آذان النائب العام المساعد وسكرتيره، تركنا المستشار السعيد وحمل أوراق التحقيق ودخل إلى مكتب رئيسه المستشار عبد المجيد محمود وغاب فترة، كنت أميل إلى أنها ستنتهي بدخوله المكتب ليعلن حبسي على ذمة التحقيق أربعة أيام، قبل أن يتم تحديد موعد لمحاكمتي، في حين كان عصام سلطان متفائلاً جداً، وقام بتهنئتي على طريقتي في الإجابة على أسئلة النائب العام المساعد، وقال إنني أضعت مستقبلاً باهراً كان ينتظرني في المحاماة، لكنه لم يقل ـ لطفاً منه ـ إنه توصل إلى تلك النتيجة بسبب قدرتي المزعجة على تكرار نفس الكلام دون ملل ولا كلل، وبنبرات صوتية مختلفة في كل مرة، ولأنني لم أكن قد حكيت له من قبل عن تجاربي القضائية، فقد قلت له إن الأسلوب الذي توصلت إليه لم يأت من فراغ، وإنما نبع من تجاربي السابقة التي تعلمت فيها أن موقفك القانوني أمام النيابة والقضاء لا يعتمد فقط على التزامك بالقانون، بل يعتمد بشكل أكبر على قدرتك على إثبات ذلك الالتزام بشكل واضح أمام رئيس النيابة أو هيئة المحكمة، هذا إذا افترضنا أنك تتعرض لتحقيق ومحاكمة لن تمارس عليهما أي ضغوط خارجية أقوى من رئيس النيابة أو القاضي، وهو ما لم أكن متأكداً منه في تلك اللحظة.

لم يكن لدي من البلاهة ما يجعلني أفترض في المستشار عبد المجيد محمود النزاهة الكاملة والعدل المطلق، لمجرد أنه لم يقم بحبسي بناءً على رغبة معمر القذافي، لأكون كبش فداء لتهدئة الأوضاع بين مصر وليبيا

لذلك، حين دخل النائب العام المساعد بعد فترة وهو لا يزال يحتفظ بملامحه المتجهمة، أخذت أسترجع ملامح وجهي ابنتيّ، وأنا على وشك أن أتخذ قراراً بمنعهما من زيارتي في السجن، لكيلا يعلق بذاكرتهما شيء من تفاصيله المقبضة، ولم أصدق نفسي حين وجدت المستشار عادل السعيد يتوجه بالكلام إلى سكرتير النيابة ويأمر بالإفراج عني من سراي النيابة بضمان محل إقامتي، وأجد نفسي بين أحضان عصام سلطان الذي بدا لي أن عادل السعيد متضايقاً من فرحته أكثر من ضيقه بإفلاتي من بين يديه، وحين استوعبت ما حدث حرصت على أن أوجه تحية خاصة وحارة للمستشار عبد المجيد محمود الذي كنت قد سمعت عنه سمع خير قبل ذلك، وبالتحديد من صديقه الفنان صلاح السعدني ـ أبي الذي لم تلده ستّي ـ لكنه كان سمعاً يركز على كونه أهلاوياً عتيداً ومن أصدقاء ومريدي نجم الأهلي الأبرز الكابتن صالح سليم.

بالطبع لم أقل ذلك لكيلا ألبّخ الدنيا، بل قلت إنني حريص على الإشادة بأن النائب العام المحترم لم يتأثر بالخطاب الذي أتاه من رئاسة الجمهورية، والذي كان يمكن ببساطة شديدة أن يجعله يصدر قراراً بحبسي على ذمة التحقيق، أو حتى بإحالتي إلى محكمة الجنايات ليترك الكرة في ملعبها، ويخرج نفسه من الحرج السياسي الذي قد يقع فيه، وهي شهادة لم أكتف بقولها شفهياً، بل سجلتها كتابة في صحيفة (المصري اليوم)، وقلتها في ندوة دعاني إليها حزب الوسط بعد قيام ثورة يناير، وكان يديرها عصام سلطان نفسه، ولم يكن بعض حضور الندوة سعداء بما قلته، فقد تعالت الأصوات وقتها مطالبة بالإطاحة بالنائب العام الذي عيّنه مبارك، والإتيان بنائب عام ثوري، وهو ما قام به الإخوان بعد ذلك حين أطاحوا بعبد المجيد محمود وجاؤوا بالمستشار طلعت إبراهيم، قبل أن تعيد محكمة النقض عبد المجيد محمود إلى مكانه ويتنحى بعد ذلك استشعاراً للحرج.

لم يكن لدي من البلاهة ما يجعلني أفترض في المستشار عبد المجيد محمود النزاهة الكاملة والعدل المطلق، لمجرد أنه لم يقم بحبسي بناءً على رغبة معمر القذافي، لأكون كبش فداء لتهدئة الأوضاع بين مصر وليبيا، فأنا لا أدري على وجه الدقة هل كان قراره بإخلاء سبيلي أنا والأستاذ إبراهيم عيسى من قبلي نابعاً من قوة موقفنا القانوني الذي أحسنت في عرضه في إجاباتي، وشجعه على ذلك قراري بألا أقوم باستعراض إعلامي يستفز النيابة، أم أن ذلك القرار كان قد تم اتخاذه بالتنسيق مع رئاسة الجمهورية التي لم يكن أحد يعصي لها أمراً، والتي كانت ستقول للقذافي حينها إنها لم تقصر في إحالتي أنا وإبراهيم عيسى إلى المحاكمة، لكن القضاء المستقل هو الذي أفرج عنا، كما أنني لست أدري هل كان الإفراج عني مجرد خطوة مؤقتة كان يفترض أن يعقبها إحالتنا إلى المحاكمة بعد ذلك، ثم تغيرت الظروف حين زادت بعدها بعام حدة التوتر بين ليبيا والسعودية، والتي وصلت إلى أقصى مدى في الهزل خلال انعقاد القمة العربية بالدوحة حين قام القذافي بمهاجمة الملك عبد الله بن عبد العزيز على الهواء مباشرة، ولا أدري هل كان لذلك التوتر دور في تمويت القضية؟ أم أن موضوعنا كله تم نسيانه حين دخل في الأدراج ومنها إلى الدواليب؟ خصوصاً أنني لم أكتب عما جرى معي إلا بعد ثورة يناير، ولم أحكِ كافة تفاصيله إلا الآن.

كنت أدرك كل ذلك، لكنني لم أر أن من الشجاعة أن أكتم ما جرى، لعل من يعرفه يأخذه في الحسبان، ولعله يشير إلى ما كنت ـ ولا زلت ـ أره قصوراً في تعامل المنتمين إلى ثورة يناير والمؤيدين لها مع العاملين في أجهزة الدولة المصرية والذين كان الكل يستسهل وصفهم بـ "الفلول" ويردد كلاماً حماسياً عن ضرورة الإطاحة بهم والاستعانة بكوادر ثورية، وهو كلام مضلل رغم حسن نيته، لأن الحصول على كوادر ثورية كفئة كان أمراً صعباً إن لم يكن مستحيلاً في ظل التجريف الذي مارسه حسني مبارك ومن قبله أنور السادات وعبد الناصر على وفي أجهزة الدولة، ولذلك كان من مصلحة الثورة المصرية أن تستفيد من كفاءات كثيرة في الأجهزة المختلفة، وتتعامل معها بواقعية وذكاء، دون أن تخشى من اتهامها بالإصلاحية أو قصر النظر، لأن ثائراً عتيداً مثل لينين قام بذلك عقب الثورة الروسية، وكان ذلك سبباً في قدرته على الإمساك بمفاصل الدولة في فترة حرجة، وستجد أمثلة على ذلك في جميع الثورات الكبرى، لكنني ذكرت اسم لينين رغبة في تذكير هواة المزايدين بأنه سيكون عليهم من الصعب أن يزايدوا على لينين شخصياً، لكن ذلك لم يمنع أغلبهم من الاستمرار في ترديد الخطب العنترية الحماسية التي لم تفض إلا إلى كوارث محققة، صحيح أن تلك الخطب العنترية والنظرة التي تتوهم إمكانية التغيير الجذري السريع لم يكونا وحدهما وراء ما جرى من كوارث، فقد لعبت المواقف التلفيقية والصفقات الانتهازية والخطوات الجبانة والأيدي المرتعشة دوراً أهم وأقوى في ما جرى، لكن المشكلة أن الكثيرين حين يقومون بتذكر ما جرى، يكتفون بإدانة الملفقين والانتهازيين والجبناء والمرتعشين فقط، ولا يتحدثون عن الدور الخطير والمؤسف الذي لعبه المزايدون والمجعجعون والحنجوريون في دفع الكثير إلى الانفضاض عن الميادين، والرهان على من يحقق لهم الأحلام التي حلموا بها حين تمت الإطاحة بمبارك وأسرته.

لكن كل ما أقوله الآن، يبدو حديثاً بعيداً عن واقع سحيق القدم، لا يصدق أحد أنه حدث قبل سنوات قليلة في عمر الزمان، فقد أصبح من الخيال العلمي الآن تصور أن هناك من يمكن أن يتخذ قراراً قضائياً مستقلاً عن رغبة ضباط الأمن الوطني والمخابرات الحربية، فما بالك إن كانت هناك رغبة قادمة من رئاسة الجمهورية بحبس هذا الكاتب أو ذلك الناشط السياسي أو الحقوقي، وأصبح من المثير للأسى أن تجد الآن من يتحسر على أيام معمر القذافي، بعد ما جرى من كوابيس دامية في ليبيا، متناسين أو ناسين من هول الفجيعة والأسى أن ما حدث ويحدث في ليبيا وسوريا واليمن ومصر والعراق وفي كل بلد عربي ليس منفصلاً عما فعلته بالبلاد وشعوبها تلك السنين الطويلة من حكم الطغيان السياسي التي جعلت رئيساً يتحكم في مليارات الدولارات ويقرر مصائر ملايين البشر من أبناء شعبه، ينشال وينحط ويرغي ويزبد ويقلب الدنيا، لمجرد أن شاباً عابثاً وصفه في مقالة بأنه (الرجل الأخضر).

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.