أنا والرجل الأخضر (1/3)

09 فبراير 2021
+ الخط -

في مارس/آذار 2005 طلب مني الأستاذ إبراهيم عيسى رئيس تحرير صحيفة "الدستور" التي كانت قد استأنفت الصدور بعد توقف دام سنوات، أن أشارك في صفحة خصصها للكتابة عن "الزعيم" الليبي العقيد معمر القذافي، وفي حين اختار بعض المشاركين أن يتحدث عنه بسخرية منضبطة أو بجدية تليق بما ارتكبه من جرائم في حق ليبيا وشعبها، اخترت أن أكتب مقالاً هزلياً لا يخلو من الجد برغم أنه حمل عنوان "الرجل الأخضر"، وقد قلت فيه الآتي:  

 "كلما قدّم الأخ العقيد معمر القذافي فاصلاً فكاهياً جديداً من فواصله التي يتفوق فيها على كبار كوميديانات العرب والعجم، شعرت بالأسى والشفقة من أجل شيخ المجاهدين عمر المختار، وأخذت أتخيل روح جزار فزّان الكولونيل الإيطالي جراتسياني وهي تصرخ ضاحكة من قاع الجحيم (هل هذا هو ماكنت تحارب من أجله يا عمر، هل تذكر عندما قلت لي نحن معكم إلى نهايتكم أو نهايتنا.. ما رأيك في هذه النهاية التي انتهى إليها شعبك؟.. ألم نكن ألطف بذمتك.. على الأقل كنا نقتل واحدا من كل عشرة.. بينما يقتل غيرنا عشرة في كل واحد". وأتخيل عندها عمر المختار وهو يبكي في أسى، تماماً كما يبكي إلى جواره رفاقه أحمد عرابي ويوسف العظمة وعبد القادر الجزائري وعبد المنعم رياض وعز الدين القسام وعبد القادر الحسيني وغيرهم من الذين ضحوا بأرواحهم الغالية من أجل طرد المستعمر الأجنبي واستبداله بمستخرب محلي يعيش ويستمر ويتوغل وينتشر.  

هل من المناسب أن تأتي سيرة البكاء ونحن نتحدث عن العقيد القذافي؟ بالطبع لا. فنحن نتحدث عن رجل يمتلك حساً كوميدياً فريداً من نوعه، فهو كوميديان استثنائي ليس لديه أي رغبة في إضحاك الجمهور، على العكس يتحدث بجدية شديدة وبملامح متجهمة ليقول ما لا يمكن أن يتفتق عنه ذهن العصبة أولي خفة الدم من الرجال. هو ينتمي إلى مدرسة نجيب الريحاني وعادل إمام وبيتر سيلرز وجاك ليمون وبن ستيلر وغيرهم من الكوميديانات العظام الذين يوقعونك على قفاك من الضحك وهم في منتهى الجدية والصرامة، لكن الفرق بينهم وبين القذافي أنهم سيسعدون لو شاهدوك تضحك، أما القذافي وأجهزته الأمنية لو اكتشفوا أنك تضحك على كلامه فسيوقعونك على قفاك من الضرب وستأخذ بالصرمة على دماغك بمنتهى الصرامة.    

بالطبع كان يمكن أن يكون للرئيس القذافي منافسون شرسون في مجال الترفيه السياسي من بين الحكام العرب، فمعظمهم كوميديانات بالفطرة، وسر تميزهم الكوميدي جميعاً أنهم يعتقدون أنهم يتكلمون بجد، وأن الآراء التي يطلقونها يتحرق التاريخ شوقا إلى تسجيلها بأحرف من نور، لكن ما يمنع موهبة هؤلاء من الوصول إلى "أعزائهم المشاهدين" هو وجود مستشارين يكبتون هذه الموهبة ويقمعونها ويقومون بفلترة تصريحات رؤسائهم ظنا منهم أن تعرف الشعب على موهبة حكامه الكوميدية من شأنه أن يقلل احترام الشعب لرئيسه القائد المعلم، وأن من الأفضل أن يظن الشعب أن رئيسه رجل جاد أفضل من أن يعرفه على حقيقته كرجل "دمّه بينقّط عسل وسكر"، عملا بقول القائل "يا بخت من حكمني وبكّا الناس عليّا ولا إنه يضحّكني ويضحّك الناس عليا". لكن الرئيس القذافي ولحسن حظنا ليس لديه مستشارون فهو مستشار نفسه، وليس لديه مفلترون لأن الذي في قلبه على لسانه ولذلك فـ "كوميدياه" تأتينا دون فلترة أو تقطير أو ترشيح كاملة العبث ومليئة بالكوليسترول وخالية من المواد الحافظة.  

ربما كان أول ما يدعو للتأمل في الرجل هو اسمه الملفت للنظر، والذي لا يستطيع أي منا أن ينكر دوره في الشهرة العريضة التي حققها الرجل. كنت قد قرأت منذ فترة أن الاسم الذي يطلقه الأب على ابنه يسهم إلى حد بعيد في تحديد معالم شخصيته، ولا أعتقد أن هذه القاعدة يمكن أن تنطبق على أحد مثلما يمكن أن تنطبق على الرئيس معمر القذافي، فهو حقاً اسم على مسمى، معمّر في الحكم إلى ما شاء الله، وقذّاف بكل ما لا يخطر على البال من آراء وأفكار، ذهبت إلى القاموس المحيط للفيروز أبادي محاولاً أن أقرأ اسم الرجل قراءة لغوية تقربني منه، فوجدت الفيروز أبادي يقول إن "القذِّيفي" في اللغة العربية هو السبَّاب الذي يقوم بالرمي بالحجارة، وأن القُذُف هو الموضع الذي يزل عنه الشخص ويهوي، وأن الناقة القاذف هي التي تتقدم من سرعتها وترمي بنفسها أمام الإبل، وأن القذافة هي المنجنيق. ووجدت كل التصريفات الممكنة لكلمة قذف، لكنني لم أجد تصريف كلمة قذّافي نفسها، فقررت أن أصرف النظر عن محاولة تأمل الرجل لغوياً وأكتفي بتأمله سياسياً ثم لونياً.   

وربما كان أبرز ما توصلت إليه أنه يحسب للرئيس القذافي أنه كان أسبق الرؤساء العرب إلى عمل أكثر من "نيو لوك" فكري وسياسي خصوصا خلال السنوات الماضية التي تحول فيها من الإيمان بالاتحاد العربي إلى الإيمان بالاتحاد الأفريقي، ومن يدري لعله يتحول قريبا إلى الإيمان الاتحاد السكندري، خاصة بعد نجاة الأخير من شبح الهبوط إلى الدرجة الثانية. وقد قام القذافي بهذه المراجعة الفكرية دون الاستعانة بسلاح التلميذ أو دليل المراجعة النهائية التي لا يستغني عنها أي طالب نبيه، بل قام بها من تلقاء نفسه خبط لزق، مدركاً أهمية الـ"نيو لوك" في وقت لم تكن حتى المطربة شيرين وجدي قد تنبهت إلى أهميته. 

والملاحظ أن الرجل على كثرة ما تبدّل وتعدّل من أفكاره ونظرياته لم يتخل يوماً عن عشقه للون الأخضر الذي اتخذه رمزاً لكتابه المكدّس الحاوي لعصارة أفكاره، وهي عصارة أشد نفعا وتأثيرا من عصارة المعدة ذات نفسها. قام القذافي بتغيير توجهه السياسي والفكري كثيراً، لكنه لم يفكر حتى في إدخال درجات جديدة على لون الكتاب الأخضر، بالمناسبة لم يقل لنا مرة ماهي درجة لون الكتاب الأخضر، هل هو أخضر زرعي أم أخضر بوستاج كرنبي أم أخضر "فانتوش الفاشيا" كالذي استخدمته الفنانة سميحة توفيق في مسرحية ريا وسكينة؟  

بالطبع كان يمكن أن يكون للرئيس القذافي منافسون شرسون في مجال الترفيه السياسي من بين الحكام العرب، فمعظمهم كوميديانات بالفطرة، وسر تميزهم الكوميدي جميعاً أنهم يعتقدون أنهم يتكلمون بجد

 

عموماً لو استعنّا بالتفسير التآمري نستطيع أن نتفهم سر التمسك باللون الأخضر في ظل الغزل "اللا عفيف" الذي يتبادله القذافي مع الأميركان، لنرى أن هذا اللون هو الأنسب في ظل هيمنة الدولار الأخضر سياسياً على العالم حتى لو لم يكن مهيمناً اقتصادياً، وهو أمر أعتقد أنه من الممكن أن يكون مفيداً لتجار العملة في ليبيا الذين يمكن أن تسأل أيا منهم "معاك أخضر؟" دون أن تتعرض للقبض عليك، لأن ذلك لو حدث بإمكانك أن تقول مدافعا عن نفسك "أنا قصدي الكتاب الأخضر مش الدولار الأخضر".   

على أي حال لست أدري ما الذي أوحى للرئيس القذافي أن يختار للكتاب الذي يحمل خلاصة فكره في الحياة اسم الكتاب الأخضر، خاصة وليبيا بلد صحراوي في أغلبه. ربما كان الرجل متأثراً بأسطورة الرجل الأخضر الذي حوله ضغط الآخرين عليه واضطهادهم إليه إلى "سوبر هيرو" تنهار أمامه أعتى القوى، ولو كان هذا التفسير صحيحاً لحقّ لليبيين أن يحمدوا الله أنه لم ينجذب إلى أسطورة الرجل الوطواط (باتمان)، إذ لكان اللون الأسود وقتها هو اللون الرسمي للدولة، ولأصبح الوطواط الحيوان القومي لليبيا، صحيح أن السواد موجود في كل الأحوال، لكن عدم رؤيته وجهاً لوجه طيلة العمر أمر صعب ولذلك تظل العشرة مع الأخضر أفضل حالاً. 

ربما يبدو هذا التحليل لعشق القذافي للون الأخضر تحليلاً هازلاً، ولكن من قال إن هناك ما يدعو للجدية ونحن نتكلم عن الرئيس القذافي، هل رأي أحدكم الرجل وهو يقوم بتغمية عيني الرئيس الجزائري بوتفليقة عند أخذ الصور الرسمية للقمة العربية الأخيرة؟  لقد حمدت الله أن روح الطفولة البريئة لم تتملكه أكثر من ذلك، ليقوم مثلاً بعمل قرون لأقرب رئيس يقف إلى جواره، إذ لربما اندلعت حرب عربية أكثر ضراوة من داحس والغبراء. عندما شاهد صديق لي تلك الصورة قال لي منفعلاً: نفسي أفهم على ماذا يضحك باقي الزعماء، وكانت له تحليلات غير قابلة للنشر، لسفالتها وهزلها في نفس الوقت، لكنها في رأيي تحليلات بعيدة عن الصواب تماماً، ففي رأيي المتواضع أن الزعماء يضحكون فرحا بوجود القذافي وسطهم، فهو بكل ما يفعله ويقوله مصدر من مصادر شرعيتهم واستمراريتهم في مناصبهم. ولكي أوضح لك أكثر دعني أقل لك أن مشكلة القذافي أنه لم يعد عبئاً على شعب ليبيا فقط، بل صار عبئاً على باقي الشعوب العربية التي كلما ضاقت صدورها بحكامها وظلمهم ومهازلهم، وجدوا لدى أبواق الحكام نغمة مستحيلة المقاومة تقول "احمدوا ربنا إن رئيسكم ليس كالقذافي"، وبالطبع لا يستطيع أحد حينها أن يمنع نفسه من أن يقول "ألف حمد وشكر.. تستاهل الحمد يارب.  

قال لي صديقي: طيب ممكن تختم كلامك هذا بأن تقول لي ما الفرق بين الرئيس القذافي وباقي الزعماء العرب، قلت له: الزعماء العرب يشتغلون لشعوبهم في الأزرق. وحده الرئيس القذافي يشتغل لشعبه في الأخضر".  

حين أرسلت هذا المقال إلى النشر، توقعت أن يتحفظ الأستاذ إبراهيم عيسى على بعض ما جاء فيه ويطلب مني تخفيفه، لكنه تحمس لنشره، ربما لأن ما كنت أنشره في صفحة (قلمين) الأسبوعية كان أعلى في سخريته من الرئيس مبارك ورجاله، وربما لأن مصر كانت وقتها تعيش فترة انفتاح سياسي وإعلامي بسبب رغبة النظام في تخفيف الضغوط السياسية الممارسة عليه من الولايات المتحدة والدول الأوروبية المانحة، ليحصل على موافقتها على تمرير مشروع التوريث الذي كان يعد له حسني مبارك بقوة وبشكل بدأت ملامحه تتضح مع الإطاحة برجال الحرس القديم الذين ورثهم مبارك من سلفه السادات ونشأ ونما وترعرع بصحبتهم وفي ظل رعايتهم.   

المهم أن المقال لقي نجاحاً كبيراً كسائر المقالات التي نشرت في نفس الصفحة، ولم يحدث بعدها قلق بشأنه كما كنت أتوقع، حتى ظننت أنني قد أفلتّ به وخلاص، وسرعان ما انشغلت بقلق من نوع آخر، حين تلقيت نبأ رفع ثلاث بلاغات ضدي في النيابة العامة، قدمها كل من وزير القوى العاملة أحمد العماوي ورئيس اتحاد العمال السيد راشد ونائبته عائشة عبد الهادي التي أصبحت بعد ذلك وزيرة للقوى العاملة، بسبب مقال بعنوان (أم هند التي لا تريد حباً ولا حناناً)، سخرت فيه من طقوس احتفال مصر بعيد العمال الذي نظّمه الثلاثة وقدموا فيه وصلات نفاق بائسة ـ ستجد نص المقال في كتابي (السكان الأصليين لمصر) ـ وترافق مع تلك البلاغات سلسلة من المعارك والحملات الإعلامية التي بدأت بعض الصحف والمجلات الحكومية في شنها عليّ بسبب ما كنت أكتبه في صفحة (قلمين)، وتواصلت تلك الحملات والمناوشات طيلة عام 2005 وعام 2006 الذي توقفت في نهايته ـ شهر نوفمبر ـ عن كتابة صفحة (قلمين) لأتفرغ لكتابة مسلسلي التلفزيوني الأول الذي كان سيقوم كريم عبد العزيز ببطولته، وكنت قد شعرت بالارتياح حين فقدت البلاغات التي قدمها المسئولون الثلاثة خطورتها، بعد أن تمت الإطاحة بوزير القوى العاملة في تعديل وزاري واحتلت مكانه عائشة عبد الهادي التي رغبت كأي مسئول جديد في فتح صفحة جديدة مع الصحافة، ومن هنا نامت البلاغات الثلاثة في درج ما في مكتب ما من مكاتب النيابة العامة، فتنفست الصعداء وظننت أن علاقتي بالمحاكم والنيابات انتهت ولو مؤقتاً.

من الأفضل أن يظن الشعب أن رئيسه رجل جاد أفضل من أن يعرفه على حقيقته كرجل "دمّه بينقّط عسل وسكر"،

 

بعد أسبوعين فقط من توقفي عن الكتابة في (الدستور) للتفرغ لكتابة المسلسل، فوجئت باتصال من إبراهيم عيسى ظننت أنه سيشجعني فيه على معاودة الكتابة للصحيفة، أو سيخبرني بقرب ظهور الإصدار اليومي من الصحيفة والذي كنت قد وعدته أن أكتب فيه، لكنني فوجئت أنه يخبرني بعد ضحكة عالية أعقبت عبارة "الدستور وراك مهما تبعد عنه"، بأن إدارة (الدستور) تلقت استدعاءً عاجلاً من مكتب النائب العام يطلب مني أنا وهو المثول للتحقيق لأننا متهمون بإهانة رئيس دولة عربية وتعكير صفو العلاقات معها، ولأنني كنت قد كتبت عن رؤساء كثيرين في صفحة (قلمين) قبل أن أوقفها. راح بالي لأكثر من رئيس وملك، ولم أكن أتوقع أن يكون مقدم البلاغ معمر القذافي بنفسه، والذي كنت قد نسيت ما كتبته عنه، وكنت أظن أنه لم يلفت انتباه مسئولي سفارته في مصر، وحين سألت الأستاذ إبراهيم عن تفاصيل أكثر، لم أجد لديه الكثير، لأن الصحيفة لم تقم بتسلم أوراق تخص القضية، لكنني استغربت أن سيادة الأخ العقيد القائد الملهم المجدد تسامح مع كل ما نشر عنه في تلك الصفحة، وما نشر عنه في الصحف المصرية وقتها، ولم يقف في زوره إلا المقال الذي كتبته، فاختصني بذلك البلاغ الذي شمل معي الأستاذ إبراهيم بصفته رئيساً للتحرير، برغم أن المحكمة الدستورية العليا كانت قد أصدرت قبل ذلك بسنوات حكماً يبرئ رؤساء التحرير من أي مسئولية جنائية عن مقالات الرأي التي تنشر في صحفهم وتكتفي بتحميل الكتاب وحدهم المسئولية.     

حين استلمت أوراق البلاغ لكي أقوم بإرسالها إلى محاميّ الصديق العزيز عصام سلطان ـ فك الله سجنه وفرّج كربه ـ لاحظت أن القضية التي كان سيتم التحقيق معنا فيها تحمل رقم 1 لسنة 2007، أي أن النائب العام المستشار عبد المجيد محمود كان سيفتتح عمله في ذلك العام بنا، وكان يمكن أن تكون تلك بُشرة خير، لولا أن العلاقة بين حسني مبارك ومعمر القذافي كانت وقتها في أزهى حالاتها، بعد أن قام مبارك بزيارة لليبيا لحل مشكلة كانت تتعرض لها العمالة المصرية هناك، وحين شاهدتهما ليلة التحقيق في برنامج إخباري ما، وهما يتبادلان الأحضان والقبلات وكأنهما توأمان تجمعا بعد طول شتات، تذكرت البنود القانونية التي تتحدث عن جريمة إهانة رئيس دولة شقيقة والتي تتدرج حتى تصل إلى السجن المشدد ثلاث سنوات.  

وحين رأيت كيف ارتج جسدا الرئيس والعقيد من قوة الارتطام الأخوي، قلت في عقل بالي: "بالميت فيها تلات سنين يا معلم إن ما كانش عشان خاطر طولة قلمي، فعشان إثبات حسن النوايا وضمان مصالح العمال المصريين"، وحين نظرت إلى زوجتي وجدتها تتمعن في وجهي وكأنها تترقب تقديري لحجم المصيبة، فقلت لها مطمئناً: "ما تخافيش اللي بتشوفيه ده مالوش دعوة بقضيتي خالص.. وبعدين ده مقال ساخر يعني.. وممكن آخد بسببه شهر حبس مع وقف التنفيذ عشان مصلحة العمال الغلابة وده أقل تمن يدفعه الواحد مقابل إغاظته للزعيم الأراجوز المفدى".

في الحقيقة، لم أكن مطمئناً، برغم أنني أستند إلى محامٍ بارع مثل عصام سلطان سبق أن كسب الكثير من قضايا الرأي والنشر لي ولغيري، فقد كانت المرة الأولى التي يهتم فيها القذافي برفع قضية على من يهاجمه في الصحافة المصرية، وتصورت أنني لست المقصود في القضية، بل إبراهيم عيسى الذي كان نظام مبارك يفتش عن أي سبب لمعاقبته وتأديبه، ولذلك تم استغلال هذه القضية وضم اسمه إليها، وهو ما كان يعني أنني سأحصل على حكم في القضية لكي يبدو إخراجها جيداً. ومن باب تخفيف القلق قضيت الليلة التي سبقت التحقيق، وأنا أقرأ مقالي كلمة كلمة وأفكر في تخريجة قانونية للمقاطع "الصعبة" فيه، وأبحث عن مراجع وكتب يمكن أن استعين بها في دفاعي عن نفسي، ربما لأنني لم أكن قد تعافيت من تجربة اضطراري للدفاع عن نفسي بعد أن قام رئيس النيابة الذي وضع في يدي الكلابشات بطرد المحامي الذي حاول حضور التحقيق معي، وحين فشلت محاولاتي في إقناع النوم بزيارتي ولو لساعات، قررت أن أقضي الوقت في ترتيب ما سيحدث لمشروع المسلسل الذي سيتعطل لو تم حبسي، ولم أكن أعرف وقتها أنه سيتعثر، وسيتم تصويره بعدها بعام ونصف مع بطل آخر هو أحمد رزق، وحين أدركني الصباح صليت صلاة مودع، واطمأننت على ذهاب ابنتي الكبرى إلى الحضانة، وقبّلت ابنتي الثانية التي لم تكن قد أكملت وقتها الشهر الثالث من عمرها، واستأمنت زوجتي على الحال والعيال، واستنهضت جدعنتها المعهودة التي ستنقذ العائلة لو حدث لي ما لا يحمد عقباه، قبل أن نتناقش في تفاصيل مهمة مثل عدد الغيارات التي ينبغي تحضيرها في الشنطة التي سآخذها معي، لو لم يتم الإفراج عني من سراي النيابة.

(يتبع)

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.