أنا ديموقراطي لطيف
الفراشات أقدّسها وأكتب فيها شعراً. والصراصير أدوسها دون شفقة ودون أي عاطفة تذكر.
لحسن الحظ أني شاعر فقط ولست حاكماً. لحسن حظي طبعاً قبل أن يكون لحسن حظ الصراصير. فأنا في الحقيقة لا أدوس الصراصير على سبيل الهواية بل كواجب وطني.
لا أكره الصراصير، سوى أن طبيعة الصرصار تستدعي أن تدوسه. لا يرتاح أبداً ولا يهدأ إلا تحت حذاء. يبدو دائماً تائهاً ومرتاباً ومشيته تدل على أنه في حالة حرب هستيرية مستمرة وقصوى، رافعاً لواقطه الرادارية العسكرية إلى أعلى طيلة الوقت. حين تدوسه تمنحه أخيراً السكينة والهدوء والراحة الأبدية.
دسه بمحبة، هذه هي الحكمة. دسه كما لو أنك تقدم إليه خدمة يحتاجها، يطلبها، ويترجاها.
نعم. الصراصير أيضاً كائنات لطيفة، جرثومية، فيروسية، عسكرية، مرتزقة بمهارة، تمتلك حساً قتالياً متطوراً وشنيعاً. أحترم فيها إصرارها العبثي اللانهائي على الإزعاج. الإزعاج فن أيضاً. قد تستطيع هزم دولة وعقد اتفاقية سلام مع حاكمها ومع شعبها. قد يصير مواطنو الدولتين أصهاراً وأبناء عم. أما صرصار واحد فلن تستطيع أبداً هزمه ولا مصاهرته ولا أن تحوله إلى ابن عم. إنه هنا على هذه الأرض فقط كي يزعج ويشوش وكي يخيف البنات الرقيقات والحوامل والأطفال الشقر الذين لم يعتادوا على اللعب جنب القواديس.
حسناً ما به الصرصار؟ أليس جميلاً رغم ذلك؟ ألم يمدحه الفلاسفة والكتاب؟ ألا يذكرك بسامسا صرصار كافكا؟ بلا، لم أقل العكس. إلا أن كونه جميلاً مع تحفظي على هذا الوصف لا يعفيه من الأحذية والسجون والمقاصل.
لا يمكنك تخيل ما يحمله الديكتاتور داخل أعماقه من تنهدات ومن خيبات أمل، خصوصاً حين يطلب من الصراصير أن تتحول إلى فراشات بمحض إرادتها ولا تتحول
سأشعل سيجاري السميك وأنا أضع رجلاً فوق رجل فوق كنبتي الشخصية الباهظة التي سأضعها وسط خراب كبير وحرائق قديمة في قفر بعيد عن العمران، وسأنتظر أن يحضر إليّ بعض حراسي الشخصيين صرصاراً مقيداً بالحبال. سأمج الدخان بعمق وأنفخه في اتجاه السحاب وأخاطب أحد الحراس: هات المسدس إلى هنا يا ولد، المسدس ذا القبضة الذهبية طبعاً. سيكون شرفاً كبيراً لهذا الصرصار اللطيف أن يُقتل بمسدس ذهبي. شرف سيتفاخر به أمام أصدقائه الصراصير في العوالم السفلى دون شك. أصدقاؤه الذين قُتلوا دون شرف تحت أحذية عمال مفلسين ويائسين جزماً. هات المسدس يا بني. الديكتاتور يجب أن يخاطب الآخرين دائماً بـ: بني، حتى وإن كانوا أكبر منه سناً. يجب أن يكون دائماً هو الأب، القائد، المعلم، والتمثال. هيا، أسرع لا نريد أن نتأخر على الصرصار، إنه يعاني بسبب وجوده المقزز وبسبب طبيعته الصرصارية التافهة. دعنا نخلصه.
سيضع الحارس المسدس في يدي مقلوباً وسينسحب إلى الخلف بحركات تبجيلية. حارسان ممسكان بالصرصار أمامي، يرتعدان، يخافان أن أخطئ الصرصار وأن أصيب أحدهما، ثم أن أخطئه من جديد وأن أصيب أحدهما الآخر، ثم أخيراً أن أصيب الصرصار حين لا يبقى هناك سوى الصرصار. إن حدث وأصبت الحارسين أولاً فذلك أيضاً سيكون خطأ الصرصار وليس خطئي. الصراصير يجب أن تتحمل كل أخطاء وخطايا العالم مثلما تدعي أنها قادرة على تحمل حتى قصف نووي.
سيسقط الصرصار أمامي جثة هامدة. مرتاحاً ومريحاً. بعدها سأنهض، سأمسح مقدمة حذائي بسروالي بحكها بساقي من الخلف ثم سأتقدم في اتجاه الصرصار وسط الخراب والأدخنة والقفار. على يمينه أحد الحراس مسجى، وعلى يساره أحدهما الآخر مسجى أيضاً. لن أركل الصرصار بقدمي حتى لا يتسخ. حتى لا يتسخ حذائي طبعاً وليس الصرصار. سأخاطبه من بعيد فقط: هل مت؟ هل مت حقاً أم أنك تمثل ذلك فقط؟ حسناً يبدو أنك مت حقاً. إذن قل شكراً من فضلك. ترفض أن تقولها؟ خذ إذن، لا بد لك من رصاصة ثانية، حتى يتأكد موتك. حتى يتأكد لك وليس لي. بّااااق. بعد ذلك سأدير ماسورة المسدس الذهبي الصغير. ما تزال هناك رصاصة واحدة. رصاصة تريد هي أيضاً الالتحاق بأخواتها داخل بطن الصرصار. الدكتاتور الطيب يحنو على الرصاص كما لو أن الرصاصة ابنته. أخاطب الصرصار من جديد: أنت لم تعتذر لأني قتلتك بالتالي تستحق هذه الرصاصة الثالثة أيضاً: بّااااق. طبعاً يجب أن يعتذر لي لأني كلفت نفسي أن أقتله، فمنظر الصراصير وهي ميتة أبشع منه وهي حية. أيضاً عليه دفع ثمن الرصاصات فهي ليست بالمجان.
الدكتاتور طيب رغم ذلك. إنه هو الأب وهو الأم. هو الأول في كل شيء وهو الأخير أيضاً. هو الواحد وهو الأحد. كما أنه أيضاً لا يطلب حتى ثمن الرصاصة التي يقتلك بها.
لا يمكنك تخيل ما يحمله الديكتاتور داخل أعماقه من تنهدات ومن خيبات أمل، خصوصاً حين يطلب من الصراصير أن تتحول إلى فراشات بمحض إرادتها ولا تتحول، أو حين يطلب من العبيد أن يتحرروا بمحض حريتهم فيرفضون ويبكون ويحتجون مصرين على الانحناء وعلى التمسك بأهداب عرشه. إن معاناة الدكتاتور تعادل آلاف المرات معاناة شعبه، لذلك يستحق عن جدارة واستحقاق صفة: الأب، ويستحق معها أيضاً الشمبانيا.
أنا ديكتاتور عنيف ينام داخلي ديموقراطي لطيف.
عادل وأخلاقي وشاعر أيضاً إلا أني سادي كذلك. أحب ارتداء نظارتي السوداء ولباسي العسكري المنشى بالنياشين الذهبية ومخاطبة الجماهير وفي يدي سبحة: يا أبنائي ويا أحفادي إني أحبكم. أحب الفراشات بالضبط كما أحب الصراصير، وسألبي طلباتكم جميعاً ورغباتكم وسأحقق لكم أحلامكم. الفراشات سأصنع لها الحدائق، والصراصير سأنصب لها المقاصل والزنازين والمعتقلات. هل يرضيكم هذا؟ تصرخ الجماهير: يرضينا.. يرضينا.. يرضينا.. وطبعاً الصراصير هي من يصرخ أكثر.